الثلاثاء، 15 مارس 2011

لا تزايد

قلت أريد حرية و كرامة، قالوا لا تزايد. قلت أريد وطنا يسمعني، قالوا لا تزايد. قلت أريد وطنا يسعني بتناقضات عقلي و اضطرابات  أفكاري. أريد وطننا أكون فيه سيدا، قالوا انتهى عهد الرق و النخاسة.قلت، لكن العبيد موجودون و السادة هم لا يزالون السادة. و الظلم على الأنفس جاثم يخنق الروح يقتل فيها جذوة التمرد على أنفس أحادية النمط. قلت أنا مثلكم لكني مختلف، قالوا لا مكان بيننا للمختلفين فقد خلقنا الله لنكون شخصا واحدا. قلت فما يميزنا عن الأنعام إذا؟ أليست كل الأغنام متشابهات فليس هناك فرق بين هذه و تلك؟
 قالوا هكذا أريد لنا أن نكون و هكذا نحن صائرون. دع عنك زوائد فلسفة لست أهلا لها و اترك لمن هم بالشؤون أخبر أمر التفكير و التدبير و عش كما يعيش الناس فليس للعوام من الرعاع و الغوغاء أن يفكروا و يقرروا و إلا لفسد أمر البلاد و العباد. قلت و لكن أمر البلاد قد فسد و حال الناس قد رق، و قلوب العباد أصابها وهن و خواء. قالوا هذا غضب من الله و لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قلت هذا هو ما أفعله أغير ما بنفسي حتى يغير الله حالي و حالكم. قالوا لا تزايد نحن في نعمة من الأمن و الأمان عسى الله ألا يغير علينا، اللهم حوالينا و لا علينا. قلت ما هذا التناقض؟ قالوا لا تزايد.
 قالوا هناك مؤامرات خارجية يقودها المفسدون و المغرضون الضالون المضلون و يقع في براثن أفكارهم الهدامة من كان بهم خرق ممن غرر بهم مثلك. قلت ما أردت إلا كرامة و حرية و وطنا يسمعني. قالوا لا تزايد. قلت أريد أن أصدح بالقول فيسمعني كل أحد، قالوا و من أنت حتى تقول و يسمعك أي أحد؟
 قلت أنا مواطن. قالوا و نحن كذلك مواطنون لكننا مخلصون لا تتحكم بنا أجندات خارجية. قلت لكني لست مثلكم أنتم كلكم مواطن واحد و أنا كل المواطنين. أنا سني و شيعي و بدوي و عربي و أفريقي و تركي و آسيوي. أنا كل هؤلاء و أكثر.أنتم عنصرييون اختزلتم الوطن في شخصية نمطية مقيتة مكررة بينما الوطن أجمل و أغزر و أعمق من ذلك. قالوا أنت حاقد و حاسد على هذا الوطن المعطاء و ما من الله على مواطنيه من اتساق الفكر و تطابق المنهج. أعماك الحقد و الحسد و امتلئ جوفك بنزق الحمقى فنسيت أن تشكر المولى على ما أنعم عليك به من أمن و أمان و رخاء في ظل من يخاف الله و يخدم أمة الإسلام.
 قلت فما الأمن و الأمان إن غابت كرامة الإنسان. أهو أمن و أمان إذا أحنيت ناصيتي و ويل و ثبور إن نطق لساني بكلمة رأي؟ قالوا لا تزايد. قلت سأزايد و أزايد و أزايد حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا...
ومضة:
لا تسقني ماء الحياةِ بذلّةٍ .. بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل ـ عنترة بن شدّاد

ننتظر تجربة أثرى وأعمق من مجرد رحلة للشقيري

حضاريا تعتبر التجربة اليابانية من التجارب الرائدة والمثيرة للاهتمام في شتى مجالات الحضارة، وخصوصيتها تكمن في قدرة الحضارة اليابانية على تجاوز محنتها واستمرارها في مسيرتها النهضوية حتى أصبحت الأمة اليابانية من أكثر الأمم تقدما. مع العلم أنها واجهت صعوبات وتخطت عقبات شديدة الوعورة في سبيل مشروع نهضتها من هزيمة عسكرية وقنابل نووية إلى احتلال لأراضيها.

وقد قام العديد من الباحثين والمفكرين والمهتمين بالمشاريع النهضوية للأمم بدراسة التجربة اليابانية من شتى النواحي، لاكتشاف العوامل التي ساعدت الأمة اليابانية على الوصول للمكانة التي تتبوؤها الآن، وآخرهم أحمد الشقيري الذي حاول دراسة سلوكيات وقيم الفرد الياباني ومقارنتها مع سلوكيات وقيم الفرد العربي لبيان نوع التأثير الممكن للفرد أن يقوم به في نهضة أمته، وكفكرة هي جيدة جدا وتستحق الدراسة.

اختيار أحمد الشقيري لليابان كشعب وحضارة ليكونا أساسا لبحثه ذكاء يحسب له، فالأمة العربية تمر بظروف مشابهة نوعا ما لظروف اليابان إبان الحرب العالمية الثانية من احتلال وهيمنة لثقافة بعيدة عن الثقافة الأم. وبما أن اليابانيين تمكنوا من التخلص من كل هذه المعوقات المعيقة لمشروعها النهضوي وذلك بتداخل عدة عوامل أهمها إيمان الفرد الياباني بأهمية العمل والاضطلاع بدوره وواجبه تجاه هذا المشروع القومي، فإن عمل مقارنة بين الفرد الياباني والفرد العربي سيؤدي بلا شك إلى اكتشاف السلوكيات والقيم التي ساعدت الفرد الياباني على القيام بدور فاعل في نهضة أمته ومحاولة تفعيل وخلق سلوكيات وقيم متماثلة عند الفرد العربي حتى يؤدي دوره في نهضة أمته.

هذا من حيث الفكرة أما من حيث التنفيذ فقد خذل الشقيري العديد من المتلقين رغم صدق النية ووضوح الفكرة. فالمتابع لتجربة الشقيري اليابانية سيلاحظ السطحية في الطرح وغياب الموضوعية العلمية في مقارنات الشقيري مما أدى إلى إضعاف الفكرة وتشتيت المتلقي، فتعليقات ومقارنات الشقيري أقرب إلى تعليقات ومقارنات سائح منها إلى باحث أو مفكر أو داعية. حاول أحمد الشقيري دراسة المجتمع الياباني عن طريق الاحتكاك المباشر والملاحظة للسلوكيات العامة للشعب الياباني في الحياة اليومية، إلا أن احتكاك الشقيري باليابانيين لم يكن ذا عمق ومعظم ملاحظاته كانت أقرب إلى السطحية، ويعزى ذلك إلى قلة خبرته بهذا النوع من الدراسة والبحث والتي كان بإمكانه تجاوزها لو وسع من دائرة وشرائح الناس الذين قابلهم بدلا من التجول في المول أو القيام برحلات سياحية لا تؤدي الغرض من البحث ولا تمنحه العمق اللازم للخروج بنتائج ذات قيمة.

كما أنه يعاب على الشقيري أسلوبه في طرح أفكاره وملاحظاته والذي اتسم بالمبالغة الشديدة والانبهار الأشد المتوقع من سائح وليس من باحث ذهب إلى اليابان بغرض دراسة جانب من جوانب المشروع النهضوي الياباني، إضافة إلى نبرة الاستهزاء والاستخفاف عند عمل مقارناته بين الفردين العربي والياباني.

تجربة الشقيري اليابانية تسلط الضوء على موضوع حيوي وهام ولكنه نصف ضوء، ويجيب على تساؤلات عديدة و لكنها نصف إجابة، أتمنى من الشقيري أن يتقبل الملاحظات ويتحفنا في العام المقبل بتجربة أثرى وأعمق وأكثر من مجرد رحلة.

الحكواتية

تواجد الحكواتية في الوطن العربي منذ قديم الزمان. كانوا يتوسطون المقاهي و مجالس الوجهاء يتأبطون كتبا و أحيانا يتأبطون خيالهم يروون منه قصص أبو زيد الهلالي و يحكون بطولات عنترة و غراميات قيس بن الملوح، و ينسجون عوالم من خيال يسرح فيها السامعون فيتمايلون طربا لشعر قيس و يصرخون حماسة لبطولات عنترة و ينصتون في شجن لتغريبة الهلالي. ثم ينفض المجلس و يقنع الحكواتي بما تجود به أنفس رواد المقهى من قروش قليلة يستعين بها على شظف العيش. لكن مع التطور الهائل الذي حل على الدنيا و العولمة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تغير كل شئ. فتحول عنترة إلى فيلم سينيمائي، وانتهى أبو زيد الهلالي إلى مسلسل من عدة أجزاء، فكان لزاما على الحكواتي أن يتطور و ينفض عن نفسه غبار الزمان و قد كان.
 
 تحول الحكواتي من شخص غلبان و مطهوم يطوف المقاهي و مجالس الأغنياء ليجني لقمة عيشه إلى صاحب قناة فضائية يخاطب الجيل الجديد يحكي لهم قصصا و يسرد أحداثا ما أنزل الله بها من سلطان ينسبها لشخصيات تاريخية دون حسيب أو رقيب، و يفتي في شتى مسائل الحياة ففي الشعر هو شاعر أعظم من المتنبي رغم أنف الشعراء، و في الفكر له مؤلفات و كتب، و في الاقتصاد ينظر، و في السياسة يحلل و يتنبأ. و الويل و الثبور و عظائم الأمور لمن ينتقد أو يعارض. سيتهم حتما بالزندقة و الهرطقة و قلة المروة و ما هو أعظم من ذلك.
 
 و ستهب الجموع تدافع عن الحكواتي الجليل ضد شياطين الإنس العابثة. سبحان مغير الأحوال، أصبح الحكواتي في هذا الزمان يدعى إلى الصروح الجامعية ليلقي خطبا و يوجه الناس إلى حسن السواء، و الناس يتدافعون لسماع رأي الحكواتي في مسألة لا ناقة له فيها و لا بعير. أصبحت له اليد الطولى على كل شئ، فلا تقام ندوة إلا إذا شرفها بحضوره و مسح عليها من بركته. و لا يفتتح صرح علمي إلا إذا أفاد جنابه بصلاح الأمر و لا تكتشف نظرية علمية و تعتمد إلا إذا بصم بعدم تعارضها مع الثوابت و الخصوصيات.
 
ومع هذه القفزة الهائلة و المكانة الاجتماعية الجديدة أصبح لزاما على الحكواتي أن يغير شكله و مظهره بل ومسمى مهنته. أصبح الآن يرتدي بدل أفرنجي من أغلى الماركات، أو بشتا مقصبا وكأنه وزير الدولة.أصبح يسمى بصاحب الفضيلة، أو سعادة الأستاذ الدكتور العلامة المفكر شهبندر التجار حكيم الزمان سيد هذا العصر و الأوان. إلا أنه و على الرغم من كل هذه المتغيرات يدرك في قرارة نفسه أنه لم يتبوء هذه المكانة إلا بسبب الأوضاع المقلوبة و أنه في نهاية الأمر ليس إلا..مجرد.. حكواتي

الثامن و العشرين من سبتمبر

اليوم يكون قد مر تسعة و ثلاثون عاما على وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، و أنا هنا لست بصدد فتح نقاش عن الاشتراكية و القومية العربية، الديموقراطية، الصراعات، المعارك، التأميم، الفعل و رد الفعل، الانتصارات و الهزائم و كل ما إلى ذلك. ببساطة كل ما أريد فعله هو أن أرثي الرجل العربي الأصيل جمال عبدالناصر في ذكرى موته. مواطن عربي بدرجة زعيم عاش ومات مخلصا لعروبته محاولا بصدق أن يحقق آمال شعبه. عاش زمنا قصيرا كالحلم لكن تأثيره باق في وجدان كل العرب بكل أطيافهم و مشاربهم، الذين أحبوه حبا كالعبادة و الذين كرهوا حتى تقاطيع وجهه.

 قد يختلف البعض معه و عليه و حوله، إلا أن الجميع يتفقون أنه كان رجلا. عبد الناصر هو رجولتنا. نعم رجولتنا العربية الصرفة بكل ما فيها من شموخ و كبرياء و عزة و نخوة و كرامة و عصبية و صلف وشرف و عنفوان. عبدالناصر يمثل رجولتنا التي كرهها الغرب و احترمها في نفس الوقت، و فرح لموتها و أنصفها بأراشيفه و مذكرات زعمائه. تحدث لنا، خاطب وجداننا، تحدث إلى عيوبنا دون مواربة. أخطأ و حمل نفسه الخطأ قبل أن نلومه فسامحناه، بكينا فراقه لأننا بموته انتقلنا إلى مرحلة الشيخوخة و فقدان الذاكرة فأصبح العدو أخا و الشقيق عدوا.

ما زالت أفكاره تحارب إلى الآن، لأن هناك من يريد للشموخ الذي ولى و العنفوان الذي كان أن يصبح قصصا كقصص عنترة و أبو زيد الهلالي نرويها في مجالسنا حول أنفاس الشيشة، مجرد أساطير كالعنقاء و الخل الوفي، مستحيلا لا يمكن رؤيته و لا تخيله في المفهوم الواقعي الجديد..مجرد ذكرى نذكرها في هذا الوقت من العام ثم نعود إلى حيواتنا نلعن كل شئ و ننتظر أن يبعث من أصلاب هذه الأمة زعيم جديد يقودنا نحو الخلاص. نحن لسنا بحاجة إلى ناصر جديد فنزحف خلفه، نحن بحاجة لاستنهاض الهمم و استكمال المسيرة و لكن بخطى عصرية...

رحمك الله يا جمال عبدالناصر

الأغنية الحجازية إلى أين؟

من بين أزقة الحارات القديمة و من على رؤوس مشربيات البيوت العتيقة أطلت المفردة الحجازية الأصيلة معجونة بعبق التاريخ القديم. بصورتها البهية، بسلاستها و خفة ظلها، بشجنها و عذوبة لحنها حاملة بين ثناياها عبقا ممزوجا بمختلف الأعراق و الثقافات بتناغم نادر و نكهة أصيلة تتلقفها الآذان بشوق و لهفة، و يطرب لها القلب في شجن.عبقرية هذه المفردة الجميلة تكمن في أنها سهلة الوصول إلى القلب كما أنها تحمل في طياتها شجنا جميلا و حزنا دفينا يجعلها من أجمل ما تعبر به النفس عما يخالجها. و لما كان الشعر عند العرب من أجدى وسائل التعبير كانت المفردة الحجازية عروسه، فأضفت بخفتها و رونقها على الشعر جمالا ما بعده جمال.

 كتب العديد من أبناء الحجاز أبياتا و قصائد مستخدمين لهجهتهم الحجازية فكانت أبياتهم من جنس بيئتهم، التقطوها من أفواه الناس فوصلت إلى قلوبهم مباشرة، تحدثت إليها، عبرت عنها و انتزعت آهاتها. و قد تغنى بها العديد من رواد الغناء الأوائل في الحجاز فكان أجمل إنتاجهم و أغزره. لكن مع الأسف، نلاحظ في الزمن الحالي اندثار المفردة الحجازية و اختفائها التام من قاموسنا الغنائي، و هي التي كانت سائدة قبل ثلاثين عاما أو يزيد. هل انحسرت الأصالة عن المفردة الحجازية؟ هل فقدت رونقها و جاذبيتها و سحرها الأزلي؟

 لم تفقد المفردة الحجازية شيئا من ذلك، إنما كانت هناك ظروف و أحداث و متغيرات متواكبة كان لها الأثر الأكبر في اختفاء المفردة الحجازية من قاموسنا الغنائي. لعل من أبرز هذه المتغيرات وفاة العديد من الرواد الذين أسسو لهذا اللون الحجازي من حيث النص و اللحن، و لهث الجيل الجديد نحو مفردة بيضاء خالية الدسم لمواكبة بروز الأغنية الخليجية و هيمنتها على الساحة. و لا ننسى التغيير الكبير في ثقافة و ذوق المتلقي الناجم عن تطور المشهد الغنائي بشكل عام و تحول الأغنية من فن إلى صناعة و تجارة جامدة لا تعترف إلا بالعائد المادي. فظهرت شركات إنتاج ضخمة بألاتها الإعلامية الهائلة لتتحكم بالذوق العام بنصوص مدعومة و تمكنت من إرساء قواعد متينة لفن غنائي جديد ما عاد فيه مكان للمفردة الحجازية ببساطتها و صفائها و شعبيتها. فالشعر الغنائي الحجازي كان يكتبه أناس بسطاء من عامة الناس ليس لديهم القدرة على دعم نصوصهم.

 فحتى تعود الأغنية إلى بساطتها القديمة، و تعود لتعبر عما في خاطر الناس أو تقوم إحدى شركات الانتاج بعمل دراسة جدوى يتضح من خلالها أن الأغنية الحجازية قد تحقق أرباحا مجزية، ستبقى المفردة الحجازية حبيسة الأزقة القديمة ساكنة في قلوب أهلها محتفظة بنقائها و بساطتها و نكهتها

الصحوية و الليبرالية والتيار العفوي الجديد

بحكم قراءاتي المتعددة و خبرتي في ميادين الفكر و الثقافة الناتجة عن متابعة الصحف اليومية و البرامج التلفزيونية لمدة أسبوع لا أكثر،أصبحت مفكرا لا يشق لفكره غبار و مثقفا معتدا بنفسه يكتب كلاما لا يفهمه أحد، فكان لا بد أن أشارك في الصراع الفكري و المعارك الثقافية التي تدور رحاها في المجتمع السعودي الآن بين التيار الصحوي و التيار الليبرالي و إن كنت لا أنتمي لأي منهما. و كي أكون عنصرا فاعلا في هذا الحراك لا بد أن أعرف ما هو الشئ الذي يدور الصراع حوله؟
 
 و بعد تحليل الموقف بإمكاني القول أن الصراع يدور حولنا نحن كمجتمع. نحن الفريسة التي يتصارع عليها أسود الصحوة و مشاعل التنوير الليبرالية. كلى التيارين يحمل مشروعا و كل تيار يزعم أن مشروعه وحده هو القادر على انتشال المجتمع من ظلمات الجهل و الفقر و التخلف إلى أنوار التقدم و التطور المدني أو العودة بالمجتمع إلى جادة الصواب و القضاء على مظاهر الانحلال الفكري و الأخلاقي، و أن المشروع المقابل ما هو إلا مشروع إقصائي فاشل يحاول الهيمنة على الوطن و المواطن حاملا في طياته بذور التخلف و الجهل. يستمر هذا الصراع بينما نقف منه نحن كمجتمع موقف المتفرج الذي لا يعي ما يدور حوله و لا يدرك أن الصراع معه و حوله و عليه و بسببه.
 
 نتابع فصول الصراع و حدة النقاش و نسمع مصطلحات تلقى علينا من هنا و هناك و لا ندرك لها معنى، فنقف عندها و نهز رؤوسنا على طريقة العارف ببواطن الأمور. نسمع عن التنوير و عصور الظلام و النهضة الحداثية الأوروبية و نيتشة و سقراط و العلمانية و العولمة و حقوق المرأة، فتدور بنا الدنيا و نصاب بالصداع و ما أن نستفيق من هول الصدمة إلا و تعاجلنا مصطلحات سد الذرائع، الزندقة، الهرطقة، الغفلة، الوسطية، الصحوة، التغريب، و الخطاب المؤدلج فتطيح بعقولنا من على بروجها إلى الفراغ السحيق، فنحن بين التيارين أشبه بلوح زجاج، ويل له إن وقع على الصخر و ويل له إن وقع الصخر عليه.
 
 و بما أنني مثقف و مفكر عظيم و جدت أن الحل الوحيد هو أن أنشئ تيارا فكريا، نسبة إلى أنه أعياني التفكير، و يكون هذا التيار معبرا عن المجتمع كما هو دون محاولة فرض تجارب ثقافية عليه هي أبعد ما يكون عن ثقافة أفراده، همومهم، و مشاكلهم و لا محاولة اجترار تجربة انفصلت عن الزمن و عن الناس. و سأسمي تياري الجديد التيار العفوي نسبة إلى العفوية و البساطة التي يتسم بها أفراد مجتمعي. و سيكون شعارنا لا للأيديولوجية و الإقصائية لا لشئ إلا أنني لا أعرف ما تعنيه هاتان الكلمتان لذى فالأفضل البعد عنهما. فنحن أناس عفوييون، نحب الكل و نكره الكل هكذا بعفوية، نتابع نشرات الأخبار و نلعن العدو و من يسانده ثم نشجع فرنسا في كأس العالم لأن فيها لاعبا عربي الأصل هكذا بكل عفوية، نشعر بالنفور من المفكرين و و المثقفين الذين يتكلمون بلساننا دون أن نفهم كلمة واحدة من حديثهم الاستراتيجي القاضي بحتمية التنوير الحداثي الموازي لنهضة المجتمعات الإنسانية نحو المدنية، نقدس رجال الدين رغم أنهم ينهروننا لمجرد التفكير و و نستمع بتثاقل لحديثهم المسجع المقفى.. نقف حيارى بين الجميع ثم نعلن سخطنا على الجميع حتى التيار العفوي الجديد...

تائهون على الطريق في أمريكا

طالعتنا الشاشة الأجمل و الأمثل و الأكمل و الأفضل ببرنامج جديد اسمه على الطريق في أمريكا و بينما الهدف المعلن من البرنامج و كما جاء على لسان صانعيه هو إزالة سوء الفهم عند الأمريكيين و نقل الصورة الحقيقية الإيجابية عن العالم العربي, كما سيتم نقل الصورة الإيجابية عن الغرب و تعريف العالم العربي بالإيجابيات لديهم, إلا أن الهدف المخفي لا ينطلي على كل فطين و هو الترويج لفكرة التطبيع مع دولة اسرائيل العربية الشقيقة و أن الإسرائيلييون ما هم إلا بشر مثلنا يضحكون و يحزنون, يأكلون و يشربون, مثلنا تماما. فسبحان الله, معظم من قابله هؤلاء الضائعون على الطريق في أمريكا كان اسرائيليا من سائق التاكسي مرورا بالمزين إلى قائد الهيلوكوبتر فجلوسا عند عائلة يهودية داعمة لإسرائيل فتناول لطعامهم لا مانع, و كأنه لا يوجد في أمريكا إلا الإسرائيلييون. و يا ليتهم قاموا بلقاء البروفيسور اليهودي نورمان فينكلستاين و الذي كرس حياته و محاضراته لمحاربة ظلم الصهاينة و تعرية حقيقتهم البغيضة, إلا أن لقاء كهذا من شأنه أن يفسد الهدف السامي من البرنامج. كما أننا نحن العرب لسنا بحاجة لمن يعرفنا بالثقافة الغربية و إيجابياتها, ما عليك إلا أن تفتح شاشة التلفاز على أي قناة عربية فتشاهد البرامج الغربية و السلوك الغربي و الحياة الغربية و طريقة التفكير الغربية.

 كان من الأجدى لصناع القرار في شاشتنا الحبيبة أن يرتبوا لبرنامج على الطريق في العالم العربي و يكون الهدف منه البحث عن العرب المهددين بالانقراض ثقافيا و فكريا و نفسيا بل و فسيولوجيا إن شئت. و لا أعلم كيف سيتم نقل الثقافة العربية و إيجابياتها إلى الأمريكيين, أعن طريق رقص فتيات العرب في صالات القمار مع الراقصات؟ أم عن طريق شرب الكحوليات في البارات و التسنكح مع المتسنكحين في الحفلات الصاخبة؟ و لا مانع من زيارة مغنية روك أمريكية فاشلة لم يسمع بها أحد لتحاور الشابات العربيات و تعطيهم الدرر عن الآخر و تقبل الآخر لترد عليها الماجدة العربية بالقول أنه هناك عرب متحضرون يتذوقون فن الروك و أن هناك مناطق عربية لديها الاستعداد لاستضافة حفل صاخب لهذه المغنية يحضره نخبة المجتمع و الصحافة. و إمعانا في اثبات هذه الحقيقة لا مانع من ان تقوم احدى المشاركات بالغناء على المسرح فتمسك بالمايك و تقفز و تحزق فشر قرد يؤدي رقصة عجين الفلاحة, و بهذا يتم نقل صورة إيجابية عن المرأة العربية فهي لا تقل عن نظيرتها الأمريكية في اللهو و المرح.

البرنامج هذا و باختصار شديد هو محاولة رخيصة للتملص من كل ما هو عربي و التكريس لجيل جديد من العرب الغربيين الذين يتحدثون الانجليزية بطلاقة و لا مانع من حشر كلمة عربية أو اثنتين خلال المحادثة للحفاظ على الهوية, بالإضافة إلى عملية غسيل مخ معتبرة تقضي على البقية الباقية من عروبة و تاريخ و كلام فارغ لا مكان له في العالم الجديد. و لهؤلاء أقول , إنها كمحاولة الفأر أن ينسلخ عن جلده و ينضم إلى عالم القطط و هي محاولة ستبوء بالفشل بكل تأكيد فمهما حاول الفأر أن يتشبه بالقطط سيبقى في نظرها صيدا حلالا تلتم حوله ساعة الغداء, و الأجدى للفأر أن يبتعد عن القطط و يجتهد في حماية نفسه و إلا وجد نفسه لقمة سائغة بين أنياب قط جائع

و رحل الولد الشقي

رحل الولد الشقي بعد رحلة طويلة في بلاط صاحبة الجلالة. رحل هكذا بكل بساطة. غيبه الموت و إن كنت أشعر أن روحه المرحة ما زالت تروم أزقة الجيزة و أنه من مكانه الآن مازال يسخر من الأوضاع المقلوبة و يتتريق علينا جميعا بأسلوبه الذي يقطر سخرية. رحل صعلوك من صعاليك الحياة، بل هو في نظري عميد الصعاليك. محمود السعدني هو امتداد لعبدالله النديم الذي جالس الحشاشين في غرزهم نام مع الحمالين في عششهم و رغم بساطته و صعلوكيته كان له عظيم الأثر على قلوب الجماهير لدرجة أن المستعمر نفاه و سجنه و أبعده.

 و هكذا كان الولد الشقي، عاش حياته بالطول و العرض و رمى نفسه هكذا في خضم بحر الدنيا غير عابئ بالعواقب. لم يترك زقاقا من أزقة الجيزة إلا كانت له فيه حكاية و لا قهوة من القهاوي التي يرتادها الصنايعية و الذين هم على باب الله إلا و فيها من يحبه و يسأل عنه. ترك لنا تجربة مثيرة غنية بالعمق فالولد الشقي خالط الجميع و جالسهم من رؤساء الدول إلى سكان العشش و من أعلام الأدب إلى رواد الغرز وأثر فيهم جميعا دون استثناء. رحل الولد الشقي و ترك لنا بين ثنايا أحرفه الرشيقة تجربة عريضة نتعلم منها.

 كان بأسلوبه اللاذع السخرية الشديد العمق أيضا ينفذ إلى القلوب مباشرة لأنه عبر عما فيها بوضوح دون مواربة، بمهارة الصائغ المحترف و هو يصنع من الأحجار الجامدة تحفا فنية. جاب أرض الله الواسعة من أقصاها إلى أقصاها، من النجوع و الكفور إلى القرى و البنادر و من أحراش أفريقيا إلى جامعات أمريكا و له في لندن حكايات و روايات و في العراق عاش عمرا و على شاطئ الخليج تسلطح و في شوارع فرنسا تمخطر، ابن عطوطة كما وصف نفسه. ترك لنا كتبا تعد أعلاما في أدب الرحلات. صعلوك سليط اللسان حتى رؤساء الدول لم يتركهم في حالهم. سجنه السادات و أبعده، حاربه القذافي تآمر عليه بعض أصحاب النفوذ هنا و هناك إلا أن الولد الشقي خرج من كل ذلك زي الشعرة من العجين رحلو كلهم و بقي قلم السعدني شاهدا على عصره.
 أثخنته جراح المنفى، عذابات السجن و لوعة الغربة، ألم التجاهل و عدم التقديرإلا أن كل ذلك لم يكسر نفس الولد الشقي بل أنه حول كل هذه التجارب كتبا لا تقدر بثمن.

أخيرا آن للولد الشقي أن يستريح تاركا خلفه أناسا يتتبعون الطريق مستدلين بقبس أضاءه السعدني و دروبا مهدتها كتبه و أفكاره. تفتقد اليوم الشفاه ابتساماتها و تبكيك أزقة الجيزة و حواريها و ترثيك قلوب أثرت فيها و إن لم تكن قد التقيتها قط. فطوبى للساخر الكبير و طوبة لمن لم يفهم؛ على طريقة عمنا محمود السعدني..

سيدي الآخر

في الحقيقة لي عتب عليك و العتب لا يكون الا بين الأحبة. لقد أضنتني الحيلة و أنا أحاول أن أتقرب اليك لأفهمك و تفهمني دون طائل. قد لا تعلم يا سيدي أني أفهمك ربما أكثر مما تفهم نفسك لدرجة أنني أكاد أصبح أنت. فقد أمضيت سنين عمري أحاول أن أكون مثلك, في مظهرك, في تفكيرك, في لغتك و طريقة كلامك, عاداتك  و قيمك,  أفراحك و أحزانك, أغانيك و أفلامك. حتى تاريخك
حاولت أن أجعله تاريخي فأحتفل لانتصاراتك و أنعي هزائمك. لدرجة أنني نسيت في الواقع ماذا أكون أنا

لذا أرجو أن تفهم حيرتي و تتفهم أسباب أشجاني. فلا أنا أصبحت أنت و لا أنا أستطيع أن أعود أنا. و الأدهى و الأمر أنك يا سيدي لم تحاول أن تفهمني كما حاولت أنا و لم تتقبلني عندما حاولت أن أكون نسخة منك. كلما اقتربت منك خطوة عدوت أنت في الاتجاه المضاد. و كلما عدوت بشكل أسرع و ابتعدت عني أكثر ازددت أنا اصرارا على أن أتقرب منك. دائما أحاول أن أشرح لك أنني مثلك أحب الأشياء نفسها. أفرح مثلك و أبكي كما تبكي, و حتى اذا باغتتني قائلا: و ماذا  عن اخوتك الذين يكرهونني ويحملونني كل أسباب شقائهم و تعاستهم؟ تجدني و قبل أن يتلاشى صدى السؤال أجيب: هم ليسوا اخوتي لا أعرفهم و أنا منهم براء. في حقيقة الأمر هم يريدون أن يصبحوا مثلك لكنهم لا يعترفون بذلك

لكنهم يشبهونك بسحناتهم و أفكارهم البالية و تخلفهم الأزلي لذا لن يستطيعوا أبدا أن يصبحوا مثلي. كيف يشبهونني و أنا مثلك, بل أنا أنت. أنا مثلك, لا أشعر بالطمئنينة حولهم, ازدريهم و ازدري وجودهم القبيح  و أفكارهم البالية و أرواحهم البائسة المنغلقة الغبية و ألعن الماء الذي أخرجني من أصلابهم. أنا مثلك يا سيدي و لكن دعني أسألك سؤالا: أو لم يكن لك اخوة أنت أيضا أهانوني و حملوني جريرة ذنب لم أرتكبه؟ نعم,  و ذلك من حقهم لأنك كنت و ما زلت تستحق و أكثر. لكنني تغيرت و من أجلك أصبحتك. لن تتغيروا أبدا. لن تكونوا محل ثقة أبدا و الحالة الوحيدة التي أسمح لك أن توجد فيها هي أن تكون تحت أقدامي

سحقا لك يا سيدي الآخر. فأنا الذي أفنيت عمري أطلب رضاك حتى أعيتني الحيل و ما حصلت عليه. كل ما أردته منك أن تقبلني مع أنه في الواقع الواجب عليك أنت أن تحني هامتك لي و تطلب مني الغفران و تلهث خلفي لأتقبلك. فأنت الذي أجرمت بحقي خدعتني, سرقتني, أسلت دمي مرارا و تكرارا و لم تبد الندم. الا أنك يا سيدي شديد الذكاء. قلبت الآية فأصبحت أنا من يعتذر لك على جرائمك. لكن للأسف توصلت للحقيقة متأخرا و أصبحت الآن بين أمرين. فلا أنا أصبحت أنت و لا أنا قادر على أن أعود أنا.

في سلم الطائرة بكيت غصبا بكيت

في سلم الطائرة بكيت غصبا بكيت. كلمات رائعة طلال مداح لعلها تكون أفضل وصف لحال الرئيس التونسي زين العابدين و هو يغادر بلاده شريدا صائعا هائما على وجهه في ليل أظلم. يا ترى ما الذي دار في خلده و هو يستقل الطائرة مطرودا في رحلة طويلة و حيدة موحشة. مؤامرة! يا ترى كيف تمكن كل هؤلاء الرعاع من التنسيق و الاجتماع و التخطيط ثم التنفيذ، مع أنني كنت أحكم بيد من فولاذ. لا يستطيع مواطن تونسي أن ينطق "زين" إلا اعتقلته و أفراد أسرته و جيرانه و كل من عبر بجواره. كيف إذا حدث كل هذا؟ لعله كان ينظر شزرا لزوجته ليلى الطرابلسي. أنت السبب يا وجه النحس، أنت و عائلتك المصونة، نهبتم البلد و أنا أتفرج عليكم. صحيح أنني نهبت أيضا، لكني رئيس دولة عربية، فإذا كان رؤساء البلديات لصوصا فحري برأس الدولة أن يكون شيخ اللصوص

أين أذهب الآن. فرنسا! أكيد.فالرؤساء الفرنسيين كلهم أصدقائي كما أنني حاولت جعل المجتمع نسخة من المجتمع الفرنسي و لي في فرنسا أملاك و أطيان. عفوا سيدي الرئيس الطريق إلى فرنسا مقطوع، هكذا قال أحد مساعدي الرئيس، ساركوزي أعلن رفضه استقبال فخامتك، كما أنه أمر المتواجدين من عائلتك على أرضه أن يغادروها على وجه السرعة. لماذا؟ ماذا فعلت أنا؟ أو لم أكن صديقه المقرب؟ صحيح هؤلاء الأوربييون لا أمان لهم. يقولون فخامة الرئيس في فرنسا أنهم لا يريدون أي إحراجات مع الجالية التونسية لديهم. تبا لهؤلاء الرعاع، ألا يتركونني في حالي؟ ألم أترك لهم البلد كلها، عساها أن تولع بهم؟ فلتذهب فرنسا إلى الجحيم. اطلبلي بيرلسكوني حالا. آسف سيدي، هاتف بيرلسكوني خارج التغطية، كما أنه بعث برسالة نصية قائلا أنه الآن يحتفل بعيد ميلاده و ليس لديه الوقت ليضيعه في استقبالك، كما أنه يخشى أن تقيم في إيطاليا بصورة غير شرعية حيث أنك لا تملك تأشيرة دخول و إيطاليا في غنى عن زيادة أعداد المهاجرين اللذين ساهمت سياستك في هجرتهم الجماعية لإيطاليا

و العمل؟ تبا لهؤلاء الأوروبيين، ليس لهم صاحب و لا ملة. سأتصل بأصدقائي الرؤساء العرب. آه من عساني أن أطلب؟  أطلبلي حسني فهو الوحيد الذي بيننا عيش و ملح منذ قديم الزمان، أما الآخرين فهم أطفال و لا أعرفهم حق المعرفة. تفضل فخامتك، الرئيس حسني مبارك على الخط. "حسني أنجدني، أنا واقع في عرضك كما تقولون في مصر" أنجدني استقبلني عندك. الناس أكلت وجهي و لعل هؤلاء الرعاع الآن يتندرون على حالي و يطلقون نكاتهم و يصوبون سهامهم في صدري. "هو أنا ناقصك يا عم انت، أنا لايص مع المسيحيين و الصعايدة، و لو استقبلتك لن يرحمني أحد فالشعب المصري عايز جنازة و يشبع فيها لطم و مش بعيد تلاقيني جنبك أدورلي على بلد يستقبلني أنا كمان"  و لكن يا فخامة الرئيس.... "زين..زين.. مش سامعك.. الخط قطع""

أكاد أجزم أن الرئيس التونسي قد انهمر من عينيه الدمع أنهارا و هو يرى الكل يتخلى عنه. لفظه الشعب، و رفض الجميع استقباله. لا أحد يريد أن يراه و كأن به جذاما. ما الحل؟ أيعقل أن أواجه الصياعة و أنا في هذا العمر؟ لقد تعود جسمي على العيشة الناعمة. و حتى لو قبلت أن أعيش كما يعيش هؤلاء الرعاع فأنا في النهاية عسكري، لكن هذه الحيزبون التي بجواري لن ترحمني و ستحيل حياتي جحيما. وجدتها، ليس لي غيره..خادم الحرمين. جابر المطرودين من الرؤساء و القادة لعله يستقبلني كما استقبل عيدي أمين و نواز شريف و الشيخ خليفة. لعلنا نسكن معا في مجمع سكني واحد فيواسونني و يساعدونني لأتأقلم مع الحياة كرئيس خالي شغل.

و في سلم الطائرة بكيت غصبا بكيت...................

إذا الشعب يوما أراد الحياة

الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر و لابد لليل أن ينجلي و لابد للقيد أن ينكسر. كلمات شدى بها أبو القاسم الشابي منذ زمن بعيد إلا أنها اليوم أضحت حقيقة ماثلة للعيان بأيدي التونسيين. إن كان أجمل الشعر أكذبه فإن أعظم الشعر أصدقه. منذ أسبوع فقط لو قال أحدهم أن الرئيس التونسي سيهرب تحت جنح الظلام راضخا لإرادة شعبه بعد اضطرابات هائلة سيوسم بالجنون حتما، سيوصف بالسذاجة و الغباء و قلة الفهم بالمتغيرات الاستراتيجية و المعطيات السياسية التي يجب توافرها لأي تغيير من هذا النوع.

إلا أن الشعب التونسي العربي الأبي ولله الحمد لم يقم وزنا لموازين القوى و الاستراتيجية الحتمية و الخطط الخمسية و كل هذا التنظير الذي يؤدي إلى إضعاف الهمم و هزيمة الروح، لم يستمع لآاراء المثقفين و الخبراء التي تقرع أي تحرك شعبي للتغيير، لم يلق بالا للفقهاء الذين حرمو التظاهر و الخروج إلى الشارع للمطالبة بالحقوق، و قام بالتغيير بيده ليثبت أن الشعب دائما هو الحلقة الأقوى عند حساب موازين القوى. إلا أن البعض يتناسى ذلك عندما تسكره سطوة المال و قوة السلطة و سعة بال الشعب فيظن أنه ظل الله في الأرض و الحاكم بأمره حتى يجد نفسه يوما هاربا مطرودا يتوسل مطارا يستقبل طائرته و بلدا يؤي روحه البائسة و هو منذ أيام قلائل كانت الدنيا كلها منزله و العباد كلهم عبيده.

أثبت التونسيون أن الرهان على السلطة والمال و القمع و التنكيل هو رهان خاسر و أن الرهان على قوة الشعب هو الرهان الكاسب و إن طال الزمن و بلغ اليأس من التغيير مبلغه. و عند هذه النقطة بالذات دائما يولد من رحم هذا اليأس أمل حقيقي تراه ماثلا أمامك يمحو كل ما كان قبله و تنجلي حقيقته راسخة و يصبح ما قبلها سرابا كأن لم يكن.
 
صورة مع التحية لكل من يظن أن الشعب العربي مات، و أنه مشغول بلقمة عيشه لا يريد من الدنيا إلا الستر، و أن الحرية و الديمقراطية و الكرامة كلمات لا تعني له شيئا. صورة مع التحية لكل من يعتقد أنه ظل الله في الأرض و أن الشعب ما هو إلا مجموعة من الرعاع خلقت لتنفذ مشيئته و تأتمر بأمره. و أنصح هؤلاء أن يفيقوا بسرعة من هذا الوهم و لا يرتخوا ظنا أن المال و الحرس و العلاقات الدولية ستحميهم أبدا من غضبة الشعب و إلا سيجدون أنفسهم ذات يوم على متن طائرة في جنح الظلام هاربين يبحثون عن مطار يستقبلهم و أرض تؤي أجسادهم المترفة.

جدة هذه العروس

جدة هذه العروس التي أضحت عانسا بسبب عضل ولي أمرها. اضطهدها حتى ما عاد يرغب فيها أحد. أكل خيراتها و تركها كسيحة تواجه مصيرها الأسود وحدها. عذراء؟ لا أعتقد فهي تتعرض للاغتصاب يوميا و على أيدي ذوويها بشهوتهم الحيوانية، نظراتهم المليئة بالخبث و الدنائة و قلة المروة. يقتحمونها يوميا، ينهشون لحمها المحرم، يلتهمون برائتها و ينفثون أنفاسهم الكريهة في وجهها. يلقون منها وطرا ثم يلقونها لقارعة الطريق تلملم جروح نفس منكسرة تعاني ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند. ما إن تلملم بعثرتها حتى يستدعيها ولي أمرها لشوط جديد من أشواط العذاب. تتسائل و هي تئن تحت جسد مترف مترهل قاس، ما ذنبي؟ بأي ذنب أقتل كل يوم؟

ذنبك يا صغيرتي أنك ولدت في كنف هذه الأسرة السادية. ذنبك أن أهلك ينهشون لحمك بدل أن يدافعوا عنه. ذنبك أن من وضعته الأقدار لك حاميا كان وحشا كاسرا. لم يرحم ضعفك، لم يحنو عليك، لم يقم بواجبه تجاهك. على العكس استغل طيبتك، ثقتك، طهرك و برائتك فغرز فيك خنجره المسموم و أقام الولائم و الليالي الملاح. في كل يوم يستدعيك بحجة مختلفة، إلا أنك تعلمين دائما إلام ينتهي اللقاء. تستحضرين عذاباتك في كل مرة يأتي فعله المنكر، فكأن كل مرة هي كل المرات.

أنهكت جدة. ما عادت تحتمل هذا العذاب. أتطلب الموت؟ أم تصبر على عذابات نفس محطمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟ لأنها طاهرة، طيبة، بريئة ما تزال تدعوا لهم بالهداية. تدعوا أن تستيقظ ضمائرهم الميتة، تدعوا ربها أن ينزل سكينته عليها و أن يزرع النخوة في قلوب ذويها فيستمعوا لاسترحماتها و يتوقفوا عن اغتصابها. فما عادت حصون جسدها المنهك تحتمل دكا. و ما عادت روحها المنكسرة تحتمل المزيد من الخذلان و الانكسار. و ما عاد في ذاكرتها مكان لتملئه بالمزيد من صور العذاب. تدعو ربها أن يكفوا عنها قبل أن يغضب قلبها عليهم. ما أطهرك يا جدة. رغم كل هذا العذاب ما زال في قلبك مكان لهم. مازال قلبك فتيا نقيا يحمل حبا لمن خانوك.
قومي يا جدة. اغضبي. فهؤلاء لا يستحقون أن تكوني ابنتهم. انفضي عن كاهلك ظلم السنين. حولي مائهم الذي قذفوه في جوفك نارا تحرقهم. لا تدعي لهم بالمغفرة و لا الهداية بل ادع ربك أن يعذب بك كل من كانت له يد في مأساتك. ادع ربك أن يكون دمع عينيك وقود نار تحرق من انتهكوا حرمة جسدك الطاهر. فليكن غضبك كبيرا كما كان ظلمهم كبيرا.

المواطن مصري

المواطن مصري. الفقر أبي و المأساة أمي. لقمة العيش همي . المهنة، اليوم شيال و كنت عاملا مرة و اشتغلت في تكسير الجبال زمنا. لكن الأصل فلاح ابن فلاح. من هذه الأرض خلقت وبها أعيش و عليها حياتي و إلى جوفها عائد. الرزق قليل لكن الرضا طبعي. الوجه كالح، أسمر، و الزمن حفر بتعب السنين على الوجه تجاعيد كينابيع نهر جففت شمس الصحراء ماءه. العيون تبدو منطفئة لوهلة، لكنها تخفي في محاجرها ضياء شموس الكون، و ذكاء فطريا كامنا في سوادها، و عنادا أزليا قدم الأرض.
مع أني فقير لكني فخور، فأنا مصري في القرآن مذكور اسمي. و من كلمات الله وصفي. فأنا خير أجناد الأرض. في سوادي خير للناس كافة، تبوأ منها موسى لقومه بيوتا. و أوصى يوسف أبويه أن ادخلو مصر إن شاء الله آمنين. بمصر كان إبراهيم الخليل، و اسماعيل، و إدريس، و يوسف، و يعقوب، و الأسباط. وصفها عمرو ابن العاص فأبدع مصر تربة سوداء و شجرة خضراء. بيدي هاتين حفرت تربتها فأخرجت بقلها و فومها و قثائها و عدسها و بصلها.
أنا المواطن مصري. مرت علي السنون العجاف أزمنة، و الهموم من الجبال رواسي، فما كسرت عزتي و لا انحنت للأقدار هاماتي. طواغيت هنا كانوا. بالذل و الإخضاع حكموا، خوازيقا في البطون دقوا، قي القتل و التنكيل أبدعوا، كم زرعا أحرقوا، كم نفسا قتلوا، كم تنمردوا و تجبروا. أين هم اليوم؟ هل على الخلود السرمدي حصلوا؟ أم في غياهب الذل جعلناهم حتى كأن لم يكونوا؟ أنا التاريخ بأناملي السمراء على الأرض كتبته. فما ارتعشت أصابعي عند الهزائم و لا انكسر قلمي من فرط انتصاراتي.
و أنت يا سيدي طاغوت آخر. استحقرت فقري و رقة حالي. أسأت في صبري الظن و أعماك عني غرور جبروتك الآني. أنستك سنين عمرك الطويلة أنك مثلهم فان. أنا حر، ولدت حرا و عشت حرا و أموت حرا إن الموت ناداني. خدعتك من المنافقين ابتساماتهم، و غطى لغط لهوكم عن الأسماع صوتي. في صدري أزمنة من القهر، و بين أضلعي حملت ظلمي، في قلبي سننت كراهيتي. تركتكم في طغيانكم تعمهون. أرقبكم. أسل سيفي ذبحا أجهزكم. لن أرحمكم. فليس من شيم المصري أن يترك للزمان ثأره. ما إن تركن للرخاء زبانيتك و تظن أنك للخلود ماض حتى أنفض عن هامتي غبارها و أفتح للنيران صدري. سيهرب زبانيتك. سأكسر قيدك الذي أدمى معصمي ستذهب خائبا ذليلا كسيرا كما ذهبو فلن يبقى أحد غيري. أنا المواطن مصري.......