الأربعاء، 6 يوليو 2011

جدة أم الرخا و الشدة

حنين جارف يأخذني إلى جدة. ذكريات الطفولة و الشباب الأول..أماكني التي أرتدتها حتى ألفتني..صدى وقع أقدامي على أرضها يرن في أذني..الأزقة المكتظة بآلاف الأجساد..شوارعها المعقدة..البسطاء مثلي من أهلها الطيبين..الروح الحية الدم الحامي و اللسان الحراق..الزناوة و الهيامة و النكتة الحاضرة.. الشتائم الحارة و الحميمة في نفس الوقت..تلك الفوضى التي أحبها و لا يفهمونها..تفصلني عنها مسافات و أزمان..كلانا تغير..أصبحت جدة "جدتين"..اتسعت الهوة و أصبح أهل جدة نوعان..أحب أحدهم و أمقت الآخر..و أنا ازددت نقما و تبرما..ليس تعنصرا لكن أسماعي اشتاقت لسماع لهجتي..لتلك الأصوات المشحونة المعجونة بعبق ثقافات كل الدنيا.. اشتقت لتلك الملامح المختلفة المتشابهة..ذلك التنوع الثري..المضحك أنني في صغري كنت أمقتها..أتوق للانعتاق من حبلها الذي كنت أظنه خانقي..طرت فرحا و أنا أتأهب للرحيل..كانت تبتسم..ظننتها فرحة هي الأخرى و هي تتخلص من أحد أبنائها المشاغبين..لم أكن أدري أنها كانت تتبسم إشفاقا..أو لعلها كانت  شامتة..لأنها تعلم أن نسيانها هو المستحيل عينه..لأنها تعلم ما تخفيه الدنيا لمن شذ عن طريقها..لأنه يستحيل التمرد على متمردة..

تستقي شخصيتها من بحرها الهادئ في ظاهره المضطرم في أعماقه..بها خبث جميل تطبع به كل من خرج من رحمها..هي لعنة كلعنة الفراعنة..تصيب من رمته أقدار الهوى في حبها..تسقيه من ريقها  رشفات لا يستطعمها في حينه لكنها تتغلغل في روحه فإذا حان الفراق بحثت حواسه عن تلك النكهة العذبة فلا تجدها..تعذبه بما كان سبب سعادته..فيمضي أيامه في حنين متواصل لعذوبة مذاقها الفريدة..أشتمها أحيانا..أحاول أن أطردها من ذاكرتي و أحيا في أحضان هذه المدينة..لكنها دائما هناك..تجري مني مجرى الدماء..أحاول حبسها بعيدا في ركن مظلم من دماغي..لكنها تنسل من بين القضبان و تجوس في أرجائي..تنكئ علي جراح البعد كل ليلة..و تمرر أوتارها على الندوب لتعزف لحنا شجيا حزينا..مواله اشتياق و اشتياق فاشتياق..يغزوني الحنين إلى جدة دائما حين ينسدل رداء الليل..يعم السكون و يخلد أهل هذه المدينة لنومهم..أشعر بشيطان جدة يتحرك في عقلي مبعثرا سكون ليلي..أين ليل جدة الصاخب من وحشة هذا المكان..الليل هنا مظلم..كئيب..ليل حقيقي خال من الضوضاء..ليل  يصلح للأشباح..الصبح كذلك هادئ هنا..يستفزني الهدوء فأنا ابن جدة عاشق للصخب و الضوضاء..أحب صباحات جدة التي تخترق هدوئها أبواق السيارات زاعقة تختلط بأصوات الباعة الجائلين..تنصهر هذه الأصوات كلها متعالية إلى السماء في سيمفونية مزعجة ملوثة لا تطرب لها إلا آذان ألفت هذا النشاز..
حتما سأعود إليها يوما..ستصافح قدماي شوارعها في شوق..سأرتاد أماكني تلك..ستستمع أذناي بصخبها الجميل..سأسير في شوارعها و أروم أزقتها المكتظة مبتسما..مستمتعا بكل تفاصيلها..سأعتذر لها عن الغياب..لن أرحل هذه المرة..سأبقى فيها حتى يصيرني الزمان جزءا من تربتها..فأنا لست من العابرين..أنا ابنها..أنا منها و هي مني..العابرون لا يفهمون هذا الارتباط الأزلي..لا يعرفون ما هي جدة..العابر هو ذاك  الذي يمر بالمكان دون أن يتوغل فيه..دون أن يأخذ من روح المكان شيئا و يترك فيه شيئا من روحه..و هؤلاء كثيرون..يأتون جدة و يذهبون و هم يذمونها..لأنهم لا يفهمونها..لإن كانت لندن عاصمة الضباب و باريس ديار الأناقة و دبي مثال التمدن و التطور، فإن حفرة من حفر شوارع جدة المتعبة تساوي كل هؤلاء و أكثر في أعين من ابتلي بعشق هذه القاتلة..جدة..أم الرخا و الشدة..

الأحد، 3 يوليو 2011

لا تبك يا أم الشهيد


شهيد قدم حياته كي يعيش وطنه. انطفئ النور في محاجره كي يضيء نورا يملئ أرض مصر ضياء ينير الطريق أمام وطن قضى في العتمة دهرا. لم يكن مناضلا و لا جنديا محترفا. لم يكن سياسيا و لا زعيما و لا بطلا. كان شابا و كفى. شابا مصريا بسيطا لو قابلته في الشارع لن تتذكره. شابا كسائر الشباب، خاطب يكد و يعمل لتوفير قوته و تجهيز نفسه للزواج. لا يعلم شيئا عن الأيديولوجية و الأحزاب و الحراك السياسي و النضال الشعبي. سمع صوت الأرض يناديه فلبى النداء. سمع اختناقة مصر فمنحها نفسه و قضى دونها. مارس البطولة ببساطة الغلابة. تلقى الرصاص الغادر و مات واقفا كالنخل. لم تكن له من كل الأمر غاية و لا سمعة. سمع مصر فحمل كفنه و ذهب يلاقي الموت لتعيش مصره شامخة متدفقة كالنيل في أزليته.
مات الشهيد. سقط فرعون. لكن جنوده توارو في خبث حتى تحين اللحظة المناسبة. حانت حتى قبل أن يتوقعوها. انشغلنا نحن بالورث و تركنا الشهيد جثة بلا روح. ذكرى بلا شجن. وضعنا الأنظمة و انخرطنا في التنظيمات. انهمكنا في التنظير و استعراض البطولات. نسينا أن ندفن الشهيد و نأخذ عزاه. بسطنا قبضاتنا و نسينا أن نبقيها مضمومة في وجه من اغتال الشهيد. لملم القتلة بعثرتهم و انتفضوا. أحد أخرى. من قال أن التاريخ يعيد نفسه لم يكذب. تركنا الجبهة و انطلقنا نحو الغنائم فهب القتلة و أثخنوا في القتل. عذبوا أم الشهيد. ضربوا أخاه. أهانوا ذكراه. أخذتنا الصيحة فوقفنا مشدوهين نتفرج على القاتل يقتل الشهيد مرتين.
لا تبك يا أم الشهيد. هي أحد و من ورائها الفتح العظيم. لا تبك يا أم الشهيد فكلنا أبناؤك. كلنا شهداء و إن كان بعضنا مازال حيا. لا تبك يا أم الشهيد فلن تذهب دماؤه الطاهرة هباء. لا تبك يا أم الشهيد فحقك راجع. ميدان الشهداء سيجمعنا من جديد. هذه المرة لن ننسى. لن نستكين حتى نهزم الظلم. حتى تتحول دموع عينيك أنهارا من فرح تغسل حزنك و تحيط بالفخر قلبك. حتى تغشى وجوه الزبانية قترة. حتى تفتح أبواب جهنم لتستقبل جحافلهم. حتى تري ملامح ابنك في كل الوجوه. لا تبك يا أم الشهيد فالشباب جبل على العناد. لا تبك يا أم الشهيد فحقك لن يضيع. لن يتبعثر دم ابنك بين القبائل. لا تبك يا أم الشهيد فكل الشهداء خارجون إلى الميدان. باقون هناك. حتى يلتحق الجنود بفرعونهم هناك، في أسفل سافلين...لا تبك يا أم الشهيد...