الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

يوميات موظف كحيان



اليوم قمت بدوري على أكمل وجه و أتممت مهمتي كما ينبغي لموظف نشيط محب لعمله مطأطئ لرأسه على الدوام عابد لرؤسائه في العلن لا يصالح و لا يهادن فيما يخص مصالح الشركة. فمصالح الشركة من مصالح الوطن و الأمة و المواطن، و أي تخاذل فيها هو خيانة للشركة و الوطن و الدين، هكذا أفهمونا في الدورات التدريبية العديدة  التي نحضرها على الدوام و التي تندرج تحت بند غسيل المخ و تصنف في هيئة الأمم المتحدة كأداة تعذيب خير منها خوازيق عصر المماليك. و الدورات التدريبية هذه حكاية و رواية و هي ككل شيء في هذه الدنيا، مقامات. فهناك دورات لأبناء الذوات و المعارف و الأحبة و الخلان و المنافقين و من حذى حذوهم. و هذه الدورات في معظم الأحيان دورات خارجية في مدن أوروبا و أمريكا و آسيا الشرقية حيث الخضرة و الوجه الحسن و أموال انتداب بغير حساب. و الويل و الثبور إن حاول أن يلتحق بإحدى هذه الدورات أحد الموظفين الكحيانين الغلابة أولاد الكلب اللذين يثقلون كاهل الشركة بالمصاريف دون فائدة ترجع لصرحنا الشامخ إلا الهم و القرف و وجع الدماغ. لكن الشركة التي تتخذ من العدل ميزانا لقراراتها لم تبخل على الغلابة من أبنائها فابتدعت لهم دورات خاصة بهم و هي داخلية في مقرات الشركة و مبانيها و الغرض منها غسل مخ الموظف المسكين و تنقيته من كل ما تعلمه في العالم الخارجي قبل التحاقه بالشركة. و حقنه بقيم الشركة و تعاليمها و أسلوبها في الحياة. ليصبح في المحصلة فردا منتجا في قطيع العجول فيفني حياته في عبادة الشركة حتى يحال على المعاش و منه على القبر.

 و لما كنت حمارا أصيلا و لم و لن أستطيع أن أكون عجلا يأكل و يشرب و يعمل حتى يموت، كان لزاما أن أصنف كمثير للمشاكل و أبعد عن القطيع و ألتحق بدورات مكثفة هدفها القضاء على سوسة التمرد في داخلي و ترويضي و من ثم إعادتي لقطيع العجول السمان لأعمل بنشاط و ابتسامة بلهاء ترتسم على المحيا. فإن لم يكن فأضعف الإيمان تحويل هذا الحمار الوحشي إلى بغل بقطع دابر رجولته و أسباب هيجانه فيتحول إلى ركام لشيء كان و يركن في مكتب مهترئ حتى يفنى. و الشركة زاخرة بهذا النوع من الموظفين؛ الموظف الذي كان ثائرا و مطالبا و مزعجا للإدارة على الدوام ثم تحول بفعل أحدث الخبرات الأمريكية في ترويض الحيوانات إلى أسد هزيل منزوع الأنياب فاقد القدرة. و أعتقد أن الإدارة تتعمد الإبقاء على هذه النماذج بين جنباتها لتكون عبرة لمن يعتبر و مثالا حيا على ما يمكن أن يصير عليه الإنسان إن هو تحدى  هذه الآلة. فهذه العينة من الموظفين لا تؤدي أي عمل و تتفرغ النهار بطوله للثرثرة و الهذيان و التسكع بين المكاتب و الأسياب دون هدف. كائنات مزمجرة مكتئبة منفرة تحيا على حافة الجنون تنتظر الموت و الخلاص.  بعضهم يعود لرشده و يرجع إلى الحظيرة صاغرا، محاولا أن يجد له مكانا تحت الشمس من جديد  لكن الشركة لا تلدغ من جحر مرتين. ستقبلهم على الأغلب و لكنها ستوكل إليهم أعمالا حقيرة إمعانا في الإذلال و التعذيب و تتركهم على هامش الحياة يلعقون جراحهم.

و لما كنت حمارا عنيدا كما ذكرت كان من الطبيعي أن أكون أحد المشاكسين المشاغبين و قد كلفتني مشاغباتي الكثير. فرضت علي عزلة خانقة من الإدارة و الموظفين المساكين اللذين آثروا السلامة و البعد عن المهالك. و انضممت إلى المنبوذين من أمثالي، مطاريد الجبال و صعاليك العرب اللذين خرجوا على أعراف القبيلة و افترشوا أطراف الصحاري. ضقت ذراعا بحالي و مآلي و تحملت التقريع الشديد من أهل بيتي على ما آلت إليه حالتنا المادية، فجارنا فلان نال ترقية و اشترى سيارة جديدة و فلان الآخر سافر في رحلة بحرية يجوب سواحل أوروبا، و أنا كما أنا مرتب لا يكفي لعشرة أيام و الحال لا يسر عدوا و لا حبيبا. لذا قررت أن "أنخ"، أطأطئ الرأس و أسبح بحمد الشركة، أدور في ملكوتها حامدا شاكرا ملبيا ألتفت لعملي و أترك خزعبلاتي و أحلامي و أنضم إلى القطيع البائس من الموظفين. أذهب للدوام مبكرا حاملا كوب القهوة في يدي. حليق الوجه مرتب الهندام مستعد ليوم طويل من العمل و الإنتاج. تخليت عن مظهر البواب الذي أتخذه لنفسي. خلعت الجلباب و المداس و استبدلتهما ببنطلون و قميص محشور في قلبه دون ذنب جناه. تخليت عن عادتي الصباحية بالمرور على عمك أبو زيد و تناول إفطار دسم مكون من معصوب ملكي و طبق فول حار بالزيت و رغيف تميز مدور كالبدر التمام. استعضت عن هذا كله ببضع حبات من العنب و تفاحة لزوم الصحة و الرشاقة و التركيز. تخليت عن مناكفة رؤسائي و تبادل القفشات و النكات البذيئة مع الزملاء.أصبحت موظفا نجيبا لا هم له إلا تحقيق أعلى معدلات الإنتاج. تخليت عن السهر و قعدات الأحبة و الخلان.تركت كل هذا وراء ظهري و قررت أن أتحول لموظف، بكل ما تحمله هذه الكلمة من خنوع و إنحناء.

 جعلت أتحين الفرص لأثبت ولائي و أنني على العهد مقيم. جاءتني الفرصة على طبق من ذهب لكنها كانت على حساب موظف آخر أشد غلبا كل ذنبه في الدنيا أنه أخطأ و اكتشف و حظه السيء أنه كان موظفا كحيانا و وقع في يد كحيان آخر. و سبحان الله كيف يتحول الغلبان إلى وحش كاسر أمام من هو أشد منه غلبا بينما يصير كالكتكوت المبلول أمام من هو أعلى منه مرتبة في السلم الاجتماعي أو الوظيفي.

أخطأ هذا المسكين فزور توقيعا ليعجل مرور فاتورة لعميل مهم. تزويره لم يكن بغرض السرقة و لا فائدة يرجوها منه إلا التعجيل بإنهاء عمله و إرضاء رئيسه. و لسوء حظه أنه وقع في يدي في اللحظة التي قررت فيها أن أتحرر من قيد الغلب و أنتمي إلى الموظفين الكبار. لم تشفع له استرحاماته و دموعه و لم يرق قلبي لديباجته عن أهله و مرضه و أطفاله اللذين يجري على رزقهم. أغلظت له في القول و طردته من مكتبي بقسوة. أخذت المستندات و توجهت من فوري لمكتب رئيس القسم. طرقت الباب و دخلت. وقفت أمامه كالتلميذ النجيب. أخبرته بالقصة و شددت على أنه لولا يقظتي و انتباهي لمر الأمر مرور الكرام و حصل ما لا يحمد عقباه. نظر إلي نظرة طويلة باردة و أمرني أن أترك المستندات على مكتبه و أذهب. هكذا دون كلمة شكر. عدت إلى مكتبي و أنا أضرب أخماسا في أسداس. هكذا دون كلمة شكر، فقط ضع المستندات و اذهب. يا خسارة التعب و الجهد. و هذا المسكين الذي ستنهد حياته من حوله و يضيع في الدنيا بسبب يقظتي و تفاني في العمل. كان يمكنني ببساطة أن أعيد الفاتورة إليه و أحذره و أجعله يقدمها بالتواقيع الصحيحة و كفى الله المؤمنين شر القتال. لكن أنانيتي و حبي لنفسي جعلاني كالضبع المسعور و هو ينقض على جيفة يلتهم ما تبقى منها بعد أن نال منها الوحوش منالهم. شعرت بالخيبة و الضياع.

في اليوم التالي استدعاني مدير الإدارة لمكتبه. شعرت بالخوف و الفزع فمدير إدارة في شركتنا العملاقة كالقدر تشعر به و لا تراه. يتحكم بمصيرك دون أن تستطيع الاعتراض. بإصبعه يرفعك درجات فيجعل حياتك نعيما مقيما. عندها تتغير حياتك و تتغير نظرة الناس لك. ستمتد الأيدي التي كانت مقبوضة و تبتسم الوجوه التي كانت عابسة. و بكلمة منه يهوي بك إلى أسفل سافلين و يحيل حياتك جحيما مستطيرا دون أن يرمش له جفن. و عندها ستصبح كل اقتراحاتك سخيفة و كل أفعالك مستفزة و كل حركاتك مزعجة. ستنفض جموع الخلق من حولك و يتركونك تجابه مصيرك الأسود وحدك.

الحاصل أنني ذهبت لمكتب المدير و منظري يصعب على الكافر. العرق يتصبب من كل مكان في جسمي و الوجه شاحب و الحلق جاف. حيتني السكرتيرة الرشيقة و أمرتني بالانتظار ريثما ينتهي المدير من مكالمة تليفونية كان يجريها. جلست أجول بناظري في المكان. تسلل إلى أذني صدى لصياح. أطرقت السمع، كان المدير يتحدث في الهاتف. كان يرغي و يزبد و يهدد و يتوعد. تملكني الخوف حتى أنني فكرت أن آخذ ذيلي في أسناني و أركض إلى ما لا نهاية. أخرجني من هواجسي صوت السكرتيرة الغندورة و هي تطلب مني الدخول. دخلت المكتب و قدماي لا تقويان على حملي. لكن الرجل كان ودودا و قابلني بابتسامة و أمر لي بالقهوة. سلمني خطاب شكر متضمنا مكافأة مالية و شهادة تشيد بصنيعي و حسن أدائي. شكرته و خرجت. نسيت الرجل الغلبان و مصيره و فرحت بتقدمي خطوة نحو الطريق الجديد الذي رسمته لنفسي. عندما وصلت مكتبي وجدت نسخة من خطاب آخر موجه لرئيس القسم مفاده أن الإدارة تشكر القسم و رئيسه و موظفه الهمام على انتباههم و تحقيقهم مصالح الشركة. لكن عبارة في هذا الخطاب استوقفتني. انتزعتني من حالة الفخر  التي كنت فيها و ألقت بي إلى الفراغ. شعرت بالتضائل و تصاغرت نفسي أمام نفسها. "كما نحيطكم علما بأن الموظف فلان الفلاني و الذي ارتكب الجرم المشهود قد تمت إجراءات فصله و هو حاليا في قبضة الشركة تمهيدا لتسليمه للجهات المختصة و ترحيله خارج البلاد"

تمنيت أن تنشق الأرض و تبلعني في تلك اللحظة. تمنيت لو أنني كنت سرحانا كعادتي و مرت الفاتورة من تحت يدي دون تدقيق كما يحدث دائما. فحتى لو سرق هذا الغلبان،  و هو لم يفعل بالمناسبة، بضعة ألوف يستعين بها على قسوة الدنيا و رقة الحال، ما الذي كان سيحدث؟ و ما يضير هذه الشركة التي تربح آلاف الملايين يوميا إن ذهبت بضع مئات أو ألوف لجيب موظف كحيان عدمان كل همه أن يعيش حتى يصل للتقاعد و يحصل على مكافأة نهاية خدمة تمكنه من تزويج أبنائه؟ ما قيمة خطاب الشكر هذا الموقع بدم الغلبان؟ أكاد أرى صورته بين سطور الخطاب و هو يمضي منكس الرأس مكبلا بالأغلال تحيط به الخيبة و المذلة. أشم رائحة الخزي و العار و دناءة الإنسان في الحبر الذي كتب به. هو خطاب شكر للموظف و نعي للإنسان. كلانا، أنا و هو قتلنا اليوم.  "و هو حاليا في قبضة الشركة........" رنت هذه العبارة في أذني كثيرا. و هل للشركة قبضة تطبقها على الموظفين  و سجن تحبس فيه المخالفين تمهيدا لترحيلهم عن البلاد؟ أي شركة هذه؟ شركة أم دولة لها حرس و شرطة و قضاء و قبضة من حديد تدك بها رؤوس الأشقياء؟

قاتل الله أنانية الإنسان. بسببها تحول غلبان مذعور إلى وحش كاسر ينتهز زلات الآخرين ليوقع بهم و يرتقي بدمائهم و خيباتهم درجات على السلم الوظيفي، و تحول غلبان  مذعور آخر إلى موظف مفصول و في قبضة الشركة تمهيدا لترحيله خارج البلاد. آه لو كان الغلبان هذا أحد القطط السمان من أصحاب الحل و الربط، أو لو كان قريبا لهذا أو ذا حظوة عند ذاك. عندها لما تجرأ  موظف كحيان مثل حالي أن يتسبب بضياعه و تغيير مجرى حياته إلى الأسوء. لكن القدر شاء أن يكون غلبانا و  أن يقع في يد من هو أشد منه غلبا.

أطرقت رأسي.جلست على مكتبي أفكر. مرت دقائق ثقيلة كأنها الدهر كله.لمحت انعكاس وجهي على شاشة الكمبيوتر القابع أمامي. كرهت ما رأيت. ضقت ذرعا بمنظري الجديد و ما يمثله. لمعت عيناي فجأة ببريق الجنون. مزقت خطاب الشكر. فككت أسر القميص و خلعته من حشرته. تحررت من ملابسي كلها و جعلت أركض في أنحاء المبني كالمجذوب و صراخي يملأ المدى. كل همي أن أعود لجلبابي و مداسي و حياتي التي كانت..

السبت، 10 نوفمبر 2012

مخانيث عدن و أحدث مكائن اللبخ



هذه التدوينة موجهة إلى ثلاثة أشخاص لا أعرفهم و قادتهم الصدفة البحتة إلى هذه المدونة فوقعوا في شر أعمالهم أو لنقل سوء حظهم..
كأي مدون ناجح أقوم دائما بمراجعة إحصائيات مدونتي..عدد مرات الزيارة، عناوين الإحالة، مواقع الإحالة، كلمات البحث الرئيسية التي أوصلت الناس إلى مدونة العبد لله..لا شيء ملفت أو خارج عن المألوف..بضع عشرات من الزيارات و لا تعليقات على أي موضوع في المدونة..كم تمنيت أن يكتب أحدهم تعليقا حتى و إن كان عبارة عن سلسلة متصلة من الشتائم..على الأقل سأشعر أنني أثرت في أحدهم لدرجة أنه تنازل و شتمني..

لكن الشيء الذي لفت انتباهي و أثار ضحكي و يبدو أنه سيغير طريقتي في التعاطي مع هذه المدونة المهجورة بل و الكتابة عموما هو كلمات البحث التي أدخلها الناس فانتهى بهم الحال أمام هذا الحائط المتآكل الذي أمارس عليه مشاغباتي و أبثه شجوني و أفك حصرتي اللغوية على أطرافه..الولد الشقي، منال الشريف، علني ما ذوق حزنك، اوجه خلف ابتسامتها بؤس، ستصافح التربة خدك..تبدو هذه العبارات طبيعية و أستطيع أن أفهم كيف وصل من أدخلوها في محركات البحث إلى صفحتي..فأنا إنسان حزين بطبعي و حزني لا يرتبط دائما بأحداث حياتي أو محيطي هو حزن عام دون سبب..إنسان بائس اختياريا..حزين قطاع خاص..حتى عندما أفرح أو أضحك بجنون أستعيذ بالله  سريعا و أعود للحزن..هو المنطقة الوحيدة التي أشعر فيها بالتوازن..لذا كان من الطبيعي أن يخرج حزني إلى فضاء الانترنت و يجر شخصا كتب في محرك البحث "علني ما أذوق حزنك"  أو "وجوه تخفي خلفها بؤسا" و يلقي به هنا..كما أنني شخص متشائم كذلك و دائما ما أشعر أن الموت يحوم حولي حتى أنني تجاذبت أطراف الحديث معه مرة و لم يكن الحديث مبشرا بالخير..لعله هو الذي كتب "ستصافح التربة خدك" في محرك البحث ليوصل إلي رسالة مفادها دع القلق و ابدأ الحياة.

لكن ما أثار حنقي ثم ضحكاتي وجود عبارتين أدخلهما الناس في محركات البحث لا تمتان إلي بصلة..و أحتاج إلى خبير في الإنترنت و تقنية المعلومات ليشرح لي كيف قادت هاتان العبارتان الناس إلى مدونتي..أو لعلها مؤامرة من الحساد لتثبيط همتي و السخرية مني.. "مخانيث عدن"، و" احدث ماكنة لبخ جدران" قادتا ثلاثة أشخاص إلى هنا و رمت بهما إلى قارعة صفحتي..بداية أود أن أعتذر لثلاثتهم على تضييع وقتهم فيما لا يفيد و على عدم عثورهم على ما كانو يبحثون عنه..فأنا لست من المخانيث و لا من عدن التي لم يمن الله علي بزيارتها بعد..كما أنني لا أعرف شيئا عن مكائن اللبخ..لكن، إذا تجاوزت الفكاهة و نظرت قليلا إلى العمق ستجد أن من الطبيعي أن يقودك البحث عن مكائن اللبخ إلي..و لعله أبلغ تشبيه لكتاباتي  و لشخصي و هو تشبيه عبقري لا تجود به إلا قريحة أعرق النقاد و المحللين النفسيين..و أشهد أنني ماكينة لبخ على أعلى مستوى و إن لم أكن أحد أحدثها و اللبخ الذي أصنعه هنا لا مثيل له و إن لم يكن بنفس جودة و فائدة لبخ الموبيليا و أجهزة التكييف..و لا له القدرة على تنظيف فروة الرأس كلبخات الأعشاب..

الحقيقة أن هاتين العبارتين فتحتا مخ العبدلله على حقائق مهمة..أهمها أنني في سوق الكتابة لست أكثر من مكنة لبخ تعجن العبارات و تمزجها لتخرج لنا نصا هو عبارة عن لبخة لغوية و لبخة في المضمون..شيء متعجن متلاصق لزج يثير النفور و الانزعاج عند مقاربته..له رائحة نفاذة تزكم الأنوف..و بما أنني كإنسان أعتقد أنني على حافة الجنون لن أستغرب و أستعجب إذا تحولت إلى أحد المخانيث فقطبت حواجبي و لبست باروكة نسائية و مضغت العلك و أنا أتسكع في أحد شوارع عدن عارضا خدماتي على الراغبين..و يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف...

الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

كاتب أرزقي يعمل موظفا



النزق و الملل السريع عنوان لمعضلة لم أتمكن من تجاوزها حتى الآن. فأنا أكره الثبات على حال. عاشق للترحال..أحب الخوض في كل شيء و أي شيء. تجارب و قصص حياتي تصلح مادة لرواية مسلية أو مسلسل خفيف على طريقة  "الست كوم" لكن الملل تمكن مني أخيرا و هو في طريقه للقضاء على البقية الباقية من جذوة النشاط عندي. فأنا الآن موظف، دوام ثابت، مواعيد صارمة، لباس لائق، شخصية رسمية تومئ بحساب و تبتسم بحساب. لا مكان هنا للضحكات العالية و التسنكح في الأزقة مع الصعاليك و أولاد الشوارع. و لا السهر في المقاهي حتى آخر ساعات الليل. فالعمل اليومي الروتيني المتكرر المرهق لا يجعل للإنسان مجالا لممارسة الضياع الذي أحبه. أشبه نفسي كثيرا بالثور الذي يدور في الساقية إلى ما لا نهاية..فلا تسكع بلا هدف في المروج و الهضاب..و لا قيلولة ساعة عصاري تحت ظل شجرة أو استعراض لفحولته أمام بقرة مشتاقة..

المشكلة أن هذا الملل و فقدان القدرة على الاندهاش استشرى في أنحائي كالسرطان ماضيا بتؤدة و ثبات نحو القضاء على البقية الباقية من موهبة و خيال. فأنا أشهد لنفسي أنني متعدد المواهب..و صاحب أفكار كثيرة لو قدر لنصفها أن يتشكل على أرض الواقع لوصلت للتوازن النفسي الذي أنشده..لكن كثرة الأفكار مع النزق و التشويش الذهني جعلها تدور في المربع الأول دون أن تغادره و غالبا ما أتجاوزها للخوض في مشاريع جديدة كلها تنتهي بالنتيجة نفسها..لا شيء..

كانت لي تجربة بسيطة في عالم الصحافة لم تتعد بضعة مقالات في الصفحات الثقافية لم يلتفت إليها أحد إلا أصدقائي و أهل بيتي و ذلك لأنني ضغطت عليهم بكل السبل ليقرؤوها. إضافة إلى تقرير صحفي فقير المحتوى غارق في التقليدية مليء بالكليشيهات المملة نشرته إحدى الصحف اليومية الكبرى. لا أدري لماذا كنت أتصور أن بعد ثاني مقال ستهب الصحف اليومية الكبرى لتستكبني لديها لأطل على قرائها يوميا أو أسبوعيا أو حتى سنويا. لكن الحمدلله أن رؤساء تحرير الصحف لم يلتفتوا إلي و لم يردوا على مئات الرسائل التي أرسلتها لهم طالبا منهم منح الفرصة للشباب من أمثالي، و كانوا أكثر دراية مني بما يريد القراء و يثري الحركة الصحافية الراكدة.

كما أنني و بعد فشل مشاريعي في الصحافة تحولت إلى كتابة القصة و لم لا فأنا حكاء ممتاز و في جعبتي حواديت و قصص لا تنتهي و لدي قدرة هائلة على اختلاق الأحداث و الحواديت أيضا إذا لزم الأمر. شرعت في كتابة القصص و ابتلى ربي أحد أصدقائي بقراءة قصصي و هو روائي معروف و فنان و متواضع  و زاهد إلى حد كبير لا يحتفي بنفسه و لا إنتاجه رغم أن فنه جدير بالاحتفاء. ربما كان تواضعه و زهده هما ما أغرياني بالإثقال عليه و إغراق بريده بقصصي التي أزعم أنها من صميم الحياة ليقرأها و يبدي الرأي فيها. و كان يفعل مشكورا و يزيد بأن يضع ملاحظات على الهوامش و يمتدح الأسلوب أحيانا و يوصيني بقراءة بعض الأعمال لأحسن من أدواتي..الحق يقال أنني استفدت منه كثيرا و كنت أتحين الفرص للقائه لأغرقه بالأسئلة عن كيفية بناء الشخصيات و الكتابة للغة أم اللغة للكتابة.. أكاد أذوب في خجلي الآن و أنا أتخيل حالته و هو يقرأ هذه القصص مضطرا و من باب الصداقة التي تربطنا و الإلحاح الذي أمارسه عليه..لكني بعد فترة توقفت عن إرسال القصص له و هو لم يسألني عن السبب و يبدو أنه زفر زفرة حارة حامدا الله على ذلك. أو لعله خر لله ساجدا و ذبح تيسا و فرق لحمه على الفقراء ابتهاجا بانتهاء هذه العملية الثقيلة. صحيح أنني لم أتوقف عن كتابة القصة و لكنني توقفت عن إرسالها له و السبب هو حرصي على أن تدوم صداقتنا. فهو من ذلك النوع النادر من الأصدقاء و الذي تكتشف معدنه  الأصيل عند أول لقاء. كما أنني خفت أن تخونه قدرته على الاحتمال فينفجر في وجهي أو على الأقل ينسحب في صمت..

و لي تجربة في الرواية كذلك و هي  تجربة فريدة من نوعها، فهي لم تتخطى قط مرحلة التخطيط و بالتخطيط هنا أعني حديثي في كل مجلس بمناسبة و بلا مناسبة و لكل أحد عن نيتي في إصدار رواية تتناول أحد العوالم المنسية في ثقافتنا الحجازية. و الحقيقة أنني كنت بارعا في الحديث و في وصف العمل كيف سيكون، شخوصه و أزمنته، و رسالته. لكنه لم يتخطى يوما مرحلة الحديث إلى التنفيذ و انتهى هذا العمل العظيم نهاية تليق به فصرت أستخدمه كمدخل للحوار في جلسات المثقفين التي أحضرها و وسيلة لإحياء الجلسة في تلك اللحظات التي يسود فيها الصمت المطبق..

تشعبت في الحديث كثيرا و أبحرت بعيدا عما كنت أريد قوله في الأساس و امتلئت سطور صفحتي بالتناقضات..استبد بي الملل و تمكن مني كما يفعل دائما؛ لذا لن أكمل هذه الحكاية..

 

كاتب أرزقي يعمل موظفا كحيانا

الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

أحلام موظف كحيان



إذا هذه هي حياتي . موظف كحيان في إدارة تعيسة. يدقق الفواتير و يتأكد من تطابق أصفارها و صحة بياناتها. يأتي إلى عمله و يغادره في مواعيد ثابتة صارمة. ينتظر نهاية الشهر ليقبض بأصابعه البضة على بضع قروش تعينه على شظف العيش. يومي روتين خانق لا تقطع تكراره إلا فواصل النميمة و سندوتشات البيض المقلي و دقائق معدودة لتدخين السجائر. ذهب الشباب و ذهبت السنين أفسحت الرأس طريقا لصحراء أكلت شعر رأسي. أشعر كأنني كنت في غيبوبة و لما استفقت وجدت نفسي قد صرت شيئا لا أجد له تعريفا مناسبا. لا يسري عني إلا الإرتحال إلى الداخل و السفر عبر دروب الحلم القابع في مؤخرة رأسي، في المكان الوحيد الذي لم تلوثه الوظيفة بعد.
أراني روائيا مشهورا مقيما في منفاه الاختياري يجلس في مقهى قديم على ضفاف بحيرة أوروبية بديعة، و كوب من القهوة الفرنسية الجيدة الصنع خاشع أمامي يتصاعد منه الدخان إلى السماء كصلوات المؤمنين. من حولي تلاميذ و مريدون يرقبون بأعين تنضح منها الرغبة في المعرفة و الإعجاب حد الانبهار أستاذهم الحالم و هو جالس بتصميم نبي يكتب قصص الحياة.  و نادلة ممتلئة القوام ترسل نحوي نظرات تحكي ما لا يقال. تسأل بصوت ملئه الغنج و العهر المحمود إن كنت أرغب في كوب آخر من القهوة. تطير في أروقة الخيال إن أنا أرسلت نحوها نصف ابتسامة.
أراني أتقدم نحو منصة ما لأتسلم جائزة في الأدب عن آخر أعمالي الروائية. أستمع لمقدم الحفل بصوته الرخيم و هو يذكر اسمي إلى جانب أعلام الأدب كواحد منهم ينتمي  مثلهم إلى تلك الفئة الخاصة  جدا من البشر. ينتقل بي المشهد إلى مكتب حقير متآكل الأطراف في غرفة خشبية ضعيفة الإضاءة تحتضن مكتبة مهترئة تحوي كتبا تزيد عن طاقة احتمال أرففها. و منضدة خشبية صغيرة تعلوها طفاية سجائر..و إناء كبير من الماء البارد بجانبه كوب ممتلئ إلى النصف. و أوراق صفراء مطروحة أمامي كجثة تنتظر مني أن أبث فيها من روحي و أمنحها أسباب الحياة. أضع قلمي الرصاص جانبا و أبحر بنظري إلى ما وراء النافذة المفتوحة عن يميني حيث الشارع الذي يموج بالحركة و الأجساد الرقيقة التي تمشي و كأنها ترقص. أتأمل الأجساد و الوجوه و أستقي منها شخصيات لرواياتي.
أراني مسافرا أبديا بلا عنوان ثابت. مسافر بلا خوف و بلا متاع. في كل بلد لي حكاية. في كل شارع لي أثر. و على كل مقهى لي أصدقاء أحبهم و لا أعود لزيارتهم. في كل زقاق لي مغامرة لا ينبغي ذكرها. أوراق و أقلام و وجوه عديدة بملامح مختلفة. نساء على كل شكل و لون يحلمن بليلة في أحضان الشهرة. و سويعات يقضينها في نقاش عن الفن و الأدب و الجمال و الموسيقى بعد فواصل من الحب الهادئ..
ينتزعني من براثن الحلم صوت رنين الهاتف ..الفواتير و العملاء..متطلبات الوظيفة..عوامل النجاح و سبل تطوير الذات..مصالح الشركة..الدسائس و النفاق..فواصل الردح و النميمة..رائحة السجائر الرخيصة و سندوتشات البيض..أودع الحلم في مكانه المقدس قبل أن يتلوث..على أن أزوره لاحقا لأستأنف مغامراتي في عالم الفن و الرواية و الموسيقى و الجمال..و بالطبع النساء..
 
موظف كحيان