الأحد، 8 سبتمبر 2013

رسالة إلى صديقة


تشعب بيننا الحديث مرة و حول ذات الموضوع. فلسطين. تناثرت الكلمات الحرب السلام التطبيع المعركة. امتطيت ذات العبارات المفرغة من المعاني عن القضية. ارتفعت الأصوات و انخفضت. و انفض السامر كالعادة دون أثر يذكر. لكني لا أملك إلا أن أسترجع بعض ما قيل. لن أذكره هنا فكلانا يعرفه. وجدت نفسي أكتب هذه الرسالة لأنني شعرت أن هناك ما زال بعض مما لم يقل.
أنا كما قلتي. لم أقدم غير الكلام الذي الصمت أبلغ منه و أغلى و أحشم. لكن دعيني أدافع عني. يا سيدتي ليس دوري أن أمسك البندقية و أقاتل في التشكيلات الحربية فأنا لست جنديا. و ليس دوري أن أخوض في فن الممكن فأنا لست زعيما سياسيا و لا محللا استراتيجيا. و لا تطلبي مني أن أسرد حقائق أو معلومات فأنا لست مثقفا ألمعيا و لا كاتبا أرزقيا. أنا يا سيدتي محض صعلوك ، مجذوب يروم الأزقة يصرخ مدااااد. أحمل في صدري إرثا من النواح و على قسمات وجهي سرادقات العزاء. أنا أحقر ما في هذه الأمة. و لكن، استمعي إلي أيتها العَجِلة. فدون كلامي يموت الجسد. دون صراخي تذبل الروح. ينقطع الحبل السري الذي يغذي الأمل. ينقل الأسطورة. يبقي الحياة. ينفث الروح في جسد الفكرة. أنا و أمثالي كالأنبياء نحمل الرسالة ننقلها إلى أولئك الذين لا يعبأ بهم أحد. لكن لا تخلطي بيننا و بين من يتصدرون ساحات الكلام. هؤلاء كلمنجية و هناك فرق..
أنا الذي كتبت فلسطين شعرا و نثرا و بكاء. حديثا في مقهى. حكمة في موال. ندهة في صوت الناي. قدمت الكلام يا سيدتي و الكلام ليس شيئا يسيرا. في زمن ضاعت فيه القضية حتى كادت فلسطين أن تمحى من الوجدان. حربنا ليست بندقية في مقابل بندقية. حربنا في المقام الأول حرب الوجدان. و سلاحنا فيها الكلام. يجب ألا يتوقف الكلام. الهنود الحمر خسروا أرضهم لأنهم سقطوا في حرب الكلام. خاضوها بالرماح فلما انكسرت رماحهم و مات جنودهم و أعملت بنادق الغزو قتلا في أجسادهم، ماتت الفكرة. عليهم رحمة الله كانوا أغبياء. لأنهم كانوا شعبا قليل الكلام. ماتوا و أفواههم مطبقة. الصمت هو الموت و لا يموت شعب يجيد الكلام. فنحن نخلق مأساتنا في أرحام زوجاتنا أجنة تحمل الإرث. نسقيهم العلقم قسوة كي يقووا على حمله. نذيقهم طعم الدم في حليب أمهاتهم كي لا ينسوا.  سيبقى الكلام.حتى يولد من أصلاب هذه الأمة من يستعيد الحق المسلوب. عندها سنأخذ العزاء في الموتى. و ينتهي الكلام.
أعذريني إن كنت قاسيا أو تلفظت بما لا يجب. لكني أشعر بالخوف. فأمثالك في تزايد. تريدون أن يعم الصمت. أن يحرم الكلام. بنية طيبة تريدون أن نمضي نحو التطور و التقدم و التنمية. نحن لا نأبه لهذا. نحن نعيش للثأر. نريد أن نرى دمائهم كما يتسلون بإراقة دمائنا. و خذيها مني، لن تكون هناك تنمية و لا يحزنون و إن كانت فإنها لا تصل لأمثالنا. لست لائما لكني معاتب.
الغربة ميلاد جديد لنفس الجسد بروح مختلفة. أسمى أو أحقر لا يهم. لكنها مختلفة. تتحدث لغة لا نفهمها. ترطن رطانة غريبة. تتنفس أحلاما لا تسعها عقولنا. تطرب لألحان تخلو من الشجن.تدعونا أن ننسى. أن نترك الماضي. أن نتوجه للمستقبل. و هذا يا سيدتي لا نستطيعه. لا نريده. اسمحيلي أن أقول رأيي فيكم. فالغربة أنستكم أنفسكم. أراحتكم من حملنا. و حملتكم بأحمال غيركم.أنتم محبطون. تلقون بإحباطكم علينا و تزعمون أننا سبب تأخركم. هاهي الأرض من تحتكم. تقدموا وحدكم و اتركونا ههنا. لكن دعيني أقول لك أنني في الحقيقة قد بدأت أخاف.  فرطانتكم استمالت قلوبا متعبة من الإرث الثقيل و طال انتظارها للخلاص. استكانت لفكرة التخلي و المضي "قدما" صرتم عقلانيين و صرنا نحن المجانين. صرتم تقدميين و صرنا نحن الرجعيين. صرنا نحن الغرباء.  لم يعد الشجن يثير الحنين. الجرح الذي لم يندمل يراد له أن يبتر. الناي لا ندهة له. و الشعر في الموال جفت منابعه. صار الكلام عن السلام و الاقتصاد و التكنولوجيا و أصحاب المال. صارت مصافحة العدو دليل رقي فكري و تحضر إنساني. و صرنا نحن وحوشا كاسرة متعطشة للدماء رغم أننا لم نرتكب غير الكلام.
سامحيني فأنا لن أتغير. سأبقى وفيا لإرثي. للثأر. لطعم الدم في حليب أمي. للفكرة. سأبقى أتحدث. سأملئ الكون بالكلام. سأثقل صدور أبنائي بالمأساة. و سأوصيهم. أن يخلقوها في أرحام زوجاتهم أبناء. و لمن بعدهم و من جاء بعدهم. لو عم الصمت في هذه الأرض كلها. ستبقى سلالتي تصرخ و تملئ الدنيا بالكلام. بالشعر في الموال. بندهة في صوت الناي. بحدوتة في المقهى. كي يتبدد سكون الصمت. كي يرحل الموت عنا. كي لا تموت الفكرة.
و يستمر الكلام.
فراس عطية.

ليست هناك تعليقات: