الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

أحلام موظف كحيان



إذا هذه هي حياتي . موظف كحيان في إدارة تعيسة. يدقق الفواتير و يتأكد من تطابق أصفارها و صحة بياناتها. يأتي إلى عمله و يغادره في مواعيد ثابتة صارمة. ينتظر نهاية الشهر ليقبض بأصابعه البضة على بضع قروش تعينه على شظف العيش. يومي روتين خانق لا تقطع تكراره إلا فواصل النميمة و سندوتشات البيض المقلي و دقائق معدودة لتدخين السجائر. ذهب الشباب و ذهبت السنين أفسحت الرأس طريقا لصحراء أكلت شعر رأسي. أشعر كأنني كنت في غيبوبة و لما استفقت وجدت نفسي قد صرت شيئا لا أجد له تعريفا مناسبا. لا يسري عني إلا الإرتحال إلى الداخل و السفر عبر دروب الحلم القابع في مؤخرة رأسي، في المكان الوحيد الذي لم تلوثه الوظيفة بعد.
أراني روائيا مشهورا مقيما في منفاه الاختياري يجلس في مقهى قديم على ضفاف بحيرة أوروبية بديعة، و كوب من القهوة الفرنسية الجيدة الصنع خاشع أمامي يتصاعد منه الدخان إلى السماء كصلوات المؤمنين. من حولي تلاميذ و مريدون يرقبون بأعين تنضح منها الرغبة في المعرفة و الإعجاب حد الانبهار أستاذهم الحالم و هو جالس بتصميم نبي يكتب قصص الحياة.  و نادلة ممتلئة القوام ترسل نحوي نظرات تحكي ما لا يقال. تسأل بصوت ملئه الغنج و العهر المحمود إن كنت أرغب في كوب آخر من القهوة. تطير في أروقة الخيال إن أنا أرسلت نحوها نصف ابتسامة.
أراني أتقدم نحو منصة ما لأتسلم جائزة في الأدب عن آخر أعمالي الروائية. أستمع لمقدم الحفل بصوته الرخيم و هو يذكر اسمي إلى جانب أعلام الأدب كواحد منهم ينتمي  مثلهم إلى تلك الفئة الخاصة  جدا من البشر. ينتقل بي المشهد إلى مكتب حقير متآكل الأطراف في غرفة خشبية ضعيفة الإضاءة تحتضن مكتبة مهترئة تحوي كتبا تزيد عن طاقة احتمال أرففها. و منضدة خشبية صغيرة تعلوها طفاية سجائر..و إناء كبير من الماء البارد بجانبه كوب ممتلئ إلى النصف. و أوراق صفراء مطروحة أمامي كجثة تنتظر مني أن أبث فيها من روحي و أمنحها أسباب الحياة. أضع قلمي الرصاص جانبا و أبحر بنظري إلى ما وراء النافذة المفتوحة عن يميني حيث الشارع الذي يموج بالحركة و الأجساد الرقيقة التي تمشي و كأنها ترقص. أتأمل الأجساد و الوجوه و أستقي منها شخصيات لرواياتي.
أراني مسافرا أبديا بلا عنوان ثابت. مسافر بلا خوف و بلا متاع. في كل بلد لي حكاية. في كل شارع لي أثر. و على كل مقهى لي أصدقاء أحبهم و لا أعود لزيارتهم. في كل زقاق لي مغامرة لا ينبغي ذكرها. أوراق و أقلام و وجوه عديدة بملامح مختلفة. نساء على كل شكل و لون يحلمن بليلة في أحضان الشهرة. و سويعات يقضينها في نقاش عن الفن و الأدب و الجمال و الموسيقى بعد فواصل من الحب الهادئ..
ينتزعني من براثن الحلم صوت رنين الهاتف ..الفواتير و العملاء..متطلبات الوظيفة..عوامل النجاح و سبل تطوير الذات..مصالح الشركة..الدسائس و النفاق..فواصل الردح و النميمة..رائحة السجائر الرخيصة و سندوتشات البيض..أودع الحلم في مكانه المقدس قبل أن يتلوث..على أن أزوره لاحقا لأستأنف مغامراتي في عالم الفن و الرواية و الموسيقى و الجمال..و بالطبع النساء..
 
موظف كحيان

ليست هناك تعليقات: