الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

يوميات موظف كحيان



اليوم قمت بدوري على أكمل وجه و أتممت مهمتي كما ينبغي لموظف نشيط محب لعمله مطأطئ لرأسه على الدوام عابد لرؤسائه في العلن لا يصالح و لا يهادن فيما يخص مصالح الشركة. فمصالح الشركة من مصالح الوطن و الأمة و المواطن، و أي تخاذل فيها هو خيانة للشركة و الوطن و الدين، هكذا أفهمونا في الدورات التدريبية العديدة  التي نحضرها على الدوام و التي تندرج تحت بند غسيل المخ و تصنف في هيئة الأمم المتحدة كأداة تعذيب خير منها خوازيق عصر المماليك. و الدورات التدريبية هذه حكاية و رواية و هي ككل شيء في هذه الدنيا، مقامات. فهناك دورات لأبناء الذوات و المعارف و الأحبة و الخلان و المنافقين و من حذى حذوهم. و هذه الدورات في معظم الأحيان دورات خارجية في مدن أوروبا و أمريكا و آسيا الشرقية حيث الخضرة و الوجه الحسن و أموال انتداب بغير حساب. و الويل و الثبور إن حاول أن يلتحق بإحدى هذه الدورات أحد الموظفين الكحيانين الغلابة أولاد الكلب اللذين يثقلون كاهل الشركة بالمصاريف دون فائدة ترجع لصرحنا الشامخ إلا الهم و القرف و وجع الدماغ. لكن الشركة التي تتخذ من العدل ميزانا لقراراتها لم تبخل على الغلابة من أبنائها فابتدعت لهم دورات خاصة بهم و هي داخلية في مقرات الشركة و مبانيها و الغرض منها غسل مخ الموظف المسكين و تنقيته من كل ما تعلمه في العالم الخارجي قبل التحاقه بالشركة. و حقنه بقيم الشركة و تعاليمها و أسلوبها في الحياة. ليصبح في المحصلة فردا منتجا في قطيع العجول فيفني حياته في عبادة الشركة حتى يحال على المعاش و منه على القبر.

 و لما كنت حمارا أصيلا و لم و لن أستطيع أن أكون عجلا يأكل و يشرب و يعمل حتى يموت، كان لزاما أن أصنف كمثير للمشاكل و أبعد عن القطيع و ألتحق بدورات مكثفة هدفها القضاء على سوسة التمرد في داخلي و ترويضي و من ثم إعادتي لقطيع العجول السمان لأعمل بنشاط و ابتسامة بلهاء ترتسم على المحيا. فإن لم يكن فأضعف الإيمان تحويل هذا الحمار الوحشي إلى بغل بقطع دابر رجولته و أسباب هيجانه فيتحول إلى ركام لشيء كان و يركن في مكتب مهترئ حتى يفنى. و الشركة زاخرة بهذا النوع من الموظفين؛ الموظف الذي كان ثائرا و مطالبا و مزعجا للإدارة على الدوام ثم تحول بفعل أحدث الخبرات الأمريكية في ترويض الحيوانات إلى أسد هزيل منزوع الأنياب فاقد القدرة. و أعتقد أن الإدارة تتعمد الإبقاء على هذه النماذج بين جنباتها لتكون عبرة لمن يعتبر و مثالا حيا على ما يمكن أن يصير عليه الإنسان إن هو تحدى  هذه الآلة. فهذه العينة من الموظفين لا تؤدي أي عمل و تتفرغ النهار بطوله للثرثرة و الهذيان و التسكع بين المكاتب و الأسياب دون هدف. كائنات مزمجرة مكتئبة منفرة تحيا على حافة الجنون تنتظر الموت و الخلاص.  بعضهم يعود لرشده و يرجع إلى الحظيرة صاغرا، محاولا أن يجد له مكانا تحت الشمس من جديد  لكن الشركة لا تلدغ من جحر مرتين. ستقبلهم على الأغلب و لكنها ستوكل إليهم أعمالا حقيرة إمعانا في الإذلال و التعذيب و تتركهم على هامش الحياة يلعقون جراحهم.

و لما كنت حمارا عنيدا كما ذكرت كان من الطبيعي أن أكون أحد المشاكسين المشاغبين و قد كلفتني مشاغباتي الكثير. فرضت علي عزلة خانقة من الإدارة و الموظفين المساكين اللذين آثروا السلامة و البعد عن المهالك. و انضممت إلى المنبوذين من أمثالي، مطاريد الجبال و صعاليك العرب اللذين خرجوا على أعراف القبيلة و افترشوا أطراف الصحاري. ضقت ذراعا بحالي و مآلي و تحملت التقريع الشديد من أهل بيتي على ما آلت إليه حالتنا المادية، فجارنا فلان نال ترقية و اشترى سيارة جديدة و فلان الآخر سافر في رحلة بحرية يجوب سواحل أوروبا، و أنا كما أنا مرتب لا يكفي لعشرة أيام و الحال لا يسر عدوا و لا حبيبا. لذا قررت أن "أنخ"، أطأطئ الرأس و أسبح بحمد الشركة، أدور في ملكوتها حامدا شاكرا ملبيا ألتفت لعملي و أترك خزعبلاتي و أحلامي و أنضم إلى القطيع البائس من الموظفين. أذهب للدوام مبكرا حاملا كوب القهوة في يدي. حليق الوجه مرتب الهندام مستعد ليوم طويل من العمل و الإنتاج. تخليت عن مظهر البواب الذي أتخذه لنفسي. خلعت الجلباب و المداس و استبدلتهما ببنطلون و قميص محشور في قلبه دون ذنب جناه. تخليت عن عادتي الصباحية بالمرور على عمك أبو زيد و تناول إفطار دسم مكون من معصوب ملكي و طبق فول حار بالزيت و رغيف تميز مدور كالبدر التمام. استعضت عن هذا كله ببضع حبات من العنب و تفاحة لزوم الصحة و الرشاقة و التركيز. تخليت عن مناكفة رؤسائي و تبادل القفشات و النكات البذيئة مع الزملاء.أصبحت موظفا نجيبا لا هم له إلا تحقيق أعلى معدلات الإنتاج. تخليت عن السهر و قعدات الأحبة و الخلان.تركت كل هذا وراء ظهري و قررت أن أتحول لموظف، بكل ما تحمله هذه الكلمة من خنوع و إنحناء.

 جعلت أتحين الفرص لأثبت ولائي و أنني على العهد مقيم. جاءتني الفرصة على طبق من ذهب لكنها كانت على حساب موظف آخر أشد غلبا كل ذنبه في الدنيا أنه أخطأ و اكتشف و حظه السيء أنه كان موظفا كحيانا و وقع في يد كحيان آخر. و سبحان الله كيف يتحول الغلبان إلى وحش كاسر أمام من هو أشد منه غلبا بينما يصير كالكتكوت المبلول أمام من هو أعلى منه مرتبة في السلم الاجتماعي أو الوظيفي.

أخطأ هذا المسكين فزور توقيعا ليعجل مرور فاتورة لعميل مهم. تزويره لم يكن بغرض السرقة و لا فائدة يرجوها منه إلا التعجيل بإنهاء عمله و إرضاء رئيسه. و لسوء حظه أنه وقع في يدي في اللحظة التي قررت فيها أن أتحرر من قيد الغلب و أنتمي إلى الموظفين الكبار. لم تشفع له استرحاماته و دموعه و لم يرق قلبي لديباجته عن أهله و مرضه و أطفاله اللذين يجري على رزقهم. أغلظت له في القول و طردته من مكتبي بقسوة. أخذت المستندات و توجهت من فوري لمكتب رئيس القسم. طرقت الباب و دخلت. وقفت أمامه كالتلميذ النجيب. أخبرته بالقصة و شددت على أنه لولا يقظتي و انتباهي لمر الأمر مرور الكرام و حصل ما لا يحمد عقباه. نظر إلي نظرة طويلة باردة و أمرني أن أترك المستندات على مكتبه و أذهب. هكذا دون كلمة شكر. عدت إلى مكتبي و أنا أضرب أخماسا في أسداس. هكذا دون كلمة شكر، فقط ضع المستندات و اذهب. يا خسارة التعب و الجهد. و هذا المسكين الذي ستنهد حياته من حوله و يضيع في الدنيا بسبب يقظتي و تفاني في العمل. كان يمكنني ببساطة أن أعيد الفاتورة إليه و أحذره و أجعله يقدمها بالتواقيع الصحيحة و كفى الله المؤمنين شر القتال. لكن أنانيتي و حبي لنفسي جعلاني كالضبع المسعور و هو ينقض على جيفة يلتهم ما تبقى منها بعد أن نال منها الوحوش منالهم. شعرت بالخيبة و الضياع.

في اليوم التالي استدعاني مدير الإدارة لمكتبه. شعرت بالخوف و الفزع فمدير إدارة في شركتنا العملاقة كالقدر تشعر به و لا تراه. يتحكم بمصيرك دون أن تستطيع الاعتراض. بإصبعه يرفعك درجات فيجعل حياتك نعيما مقيما. عندها تتغير حياتك و تتغير نظرة الناس لك. ستمتد الأيدي التي كانت مقبوضة و تبتسم الوجوه التي كانت عابسة. و بكلمة منه يهوي بك إلى أسفل سافلين و يحيل حياتك جحيما مستطيرا دون أن يرمش له جفن. و عندها ستصبح كل اقتراحاتك سخيفة و كل أفعالك مستفزة و كل حركاتك مزعجة. ستنفض جموع الخلق من حولك و يتركونك تجابه مصيرك الأسود وحدك.

الحاصل أنني ذهبت لمكتب المدير و منظري يصعب على الكافر. العرق يتصبب من كل مكان في جسمي و الوجه شاحب و الحلق جاف. حيتني السكرتيرة الرشيقة و أمرتني بالانتظار ريثما ينتهي المدير من مكالمة تليفونية كان يجريها. جلست أجول بناظري في المكان. تسلل إلى أذني صدى لصياح. أطرقت السمع، كان المدير يتحدث في الهاتف. كان يرغي و يزبد و يهدد و يتوعد. تملكني الخوف حتى أنني فكرت أن آخذ ذيلي في أسناني و أركض إلى ما لا نهاية. أخرجني من هواجسي صوت السكرتيرة الغندورة و هي تطلب مني الدخول. دخلت المكتب و قدماي لا تقويان على حملي. لكن الرجل كان ودودا و قابلني بابتسامة و أمر لي بالقهوة. سلمني خطاب شكر متضمنا مكافأة مالية و شهادة تشيد بصنيعي و حسن أدائي. شكرته و خرجت. نسيت الرجل الغلبان و مصيره و فرحت بتقدمي خطوة نحو الطريق الجديد الذي رسمته لنفسي. عندما وصلت مكتبي وجدت نسخة من خطاب آخر موجه لرئيس القسم مفاده أن الإدارة تشكر القسم و رئيسه و موظفه الهمام على انتباههم و تحقيقهم مصالح الشركة. لكن عبارة في هذا الخطاب استوقفتني. انتزعتني من حالة الفخر  التي كنت فيها و ألقت بي إلى الفراغ. شعرت بالتضائل و تصاغرت نفسي أمام نفسها. "كما نحيطكم علما بأن الموظف فلان الفلاني و الذي ارتكب الجرم المشهود قد تمت إجراءات فصله و هو حاليا في قبضة الشركة تمهيدا لتسليمه للجهات المختصة و ترحيله خارج البلاد"

تمنيت أن تنشق الأرض و تبلعني في تلك اللحظة. تمنيت لو أنني كنت سرحانا كعادتي و مرت الفاتورة من تحت يدي دون تدقيق كما يحدث دائما. فحتى لو سرق هذا الغلبان،  و هو لم يفعل بالمناسبة، بضعة ألوف يستعين بها على قسوة الدنيا و رقة الحال، ما الذي كان سيحدث؟ و ما يضير هذه الشركة التي تربح آلاف الملايين يوميا إن ذهبت بضع مئات أو ألوف لجيب موظف كحيان عدمان كل همه أن يعيش حتى يصل للتقاعد و يحصل على مكافأة نهاية خدمة تمكنه من تزويج أبنائه؟ ما قيمة خطاب الشكر هذا الموقع بدم الغلبان؟ أكاد أرى صورته بين سطور الخطاب و هو يمضي منكس الرأس مكبلا بالأغلال تحيط به الخيبة و المذلة. أشم رائحة الخزي و العار و دناءة الإنسان في الحبر الذي كتب به. هو خطاب شكر للموظف و نعي للإنسان. كلانا، أنا و هو قتلنا اليوم.  "و هو حاليا في قبضة الشركة........" رنت هذه العبارة في أذني كثيرا. و هل للشركة قبضة تطبقها على الموظفين  و سجن تحبس فيه المخالفين تمهيدا لترحيلهم عن البلاد؟ أي شركة هذه؟ شركة أم دولة لها حرس و شرطة و قضاء و قبضة من حديد تدك بها رؤوس الأشقياء؟

قاتل الله أنانية الإنسان. بسببها تحول غلبان مذعور إلى وحش كاسر ينتهز زلات الآخرين ليوقع بهم و يرتقي بدمائهم و خيباتهم درجات على السلم الوظيفي، و تحول غلبان  مذعور آخر إلى موظف مفصول و في قبضة الشركة تمهيدا لترحيله خارج البلاد. آه لو كان الغلبان هذا أحد القطط السمان من أصحاب الحل و الربط، أو لو كان قريبا لهذا أو ذا حظوة عند ذاك. عندها لما تجرأ  موظف كحيان مثل حالي أن يتسبب بضياعه و تغيير مجرى حياته إلى الأسوء. لكن القدر شاء أن يكون غلبانا و  أن يقع في يد من هو أشد منه غلبا.

أطرقت رأسي.جلست على مكتبي أفكر. مرت دقائق ثقيلة كأنها الدهر كله.لمحت انعكاس وجهي على شاشة الكمبيوتر القابع أمامي. كرهت ما رأيت. ضقت ذرعا بمنظري الجديد و ما يمثله. لمعت عيناي فجأة ببريق الجنون. مزقت خطاب الشكر. فككت أسر القميص و خلعته من حشرته. تحررت من ملابسي كلها و جعلت أركض في أنحاء المبني كالمجذوب و صراخي يملأ المدى. كل همي أن أعود لجلبابي و مداسي و حياتي التي كانت..

ليست هناك تعليقات: