الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

كاتب أرزقي يعمل موظفا



النزق و الملل السريع عنوان لمعضلة لم أتمكن من تجاوزها حتى الآن. فأنا أكره الثبات على حال. عاشق للترحال..أحب الخوض في كل شيء و أي شيء. تجارب و قصص حياتي تصلح مادة لرواية مسلية أو مسلسل خفيف على طريقة  "الست كوم" لكن الملل تمكن مني أخيرا و هو في طريقه للقضاء على البقية الباقية من جذوة النشاط عندي. فأنا الآن موظف، دوام ثابت، مواعيد صارمة، لباس لائق، شخصية رسمية تومئ بحساب و تبتسم بحساب. لا مكان هنا للضحكات العالية و التسنكح في الأزقة مع الصعاليك و أولاد الشوارع. و لا السهر في المقاهي حتى آخر ساعات الليل. فالعمل اليومي الروتيني المتكرر المرهق لا يجعل للإنسان مجالا لممارسة الضياع الذي أحبه. أشبه نفسي كثيرا بالثور الذي يدور في الساقية إلى ما لا نهاية..فلا تسكع بلا هدف في المروج و الهضاب..و لا قيلولة ساعة عصاري تحت ظل شجرة أو استعراض لفحولته أمام بقرة مشتاقة..

المشكلة أن هذا الملل و فقدان القدرة على الاندهاش استشرى في أنحائي كالسرطان ماضيا بتؤدة و ثبات نحو القضاء على البقية الباقية من موهبة و خيال. فأنا أشهد لنفسي أنني متعدد المواهب..و صاحب أفكار كثيرة لو قدر لنصفها أن يتشكل على أرض الواقع لوصلت للتوازن النفسي الذي أنشده..لكن كثرة الأفكار مع النزق و التشويش الذهني جعلها تدور في المربع الأول دون أن تغادره و غالبا ما أتجاوزها للخوض في مشاريع جديدة كلها تنتهي بالنتيجة نفسها..لا شيء..

كانت لي تجربة بسيطة في عالم الصحافة لم تتعد بضعة مقالات في الصفحات الثقافية لم يلتفت إليها أحد إلا أصدقائي و أهل بيتي و ذلك لأنني ضغطت عليهم بكل السبل ليقرؤوها. إضافة إلى تقرير صحفي فقير المحتوى غارق في التقليدية مليء بالكليشيهات المملة نشرته إحدى الصحف اليومية الكبرى. لا أدري لماذا كنت أتصور أن بعد ثاني مقال ستهب الصحف اليومية الكبرى لتستكبني لديها لأطل على قرائها يوميا أو أسبوعيا أو حتى سنويا. لكن الحمدلله أن رؤساء تحرير الصحف لم يلتفتوا إلي و لم يردوا على مئات الرسائل التي أرسلتها لهم طالبا منهم منح الفرصة للشباب من أمثالي، و كانوا أكثر دراية مني بما يريد القراء و يثري الحركة الصحافية الراكدة.

كما أنني و بعد فشل مشاريعي في الصحافة تحولت إلى كتابة القصة و لم لا فأنا حكاء ممتاز و في جعبتي حواديت و قصص لا تنتهي و لدي قدرة هائلة على اختلاق الأحداث و الحواديت أيضا إذا لزم الأمر. شرعت في كتابة القصص و ابتلى ربي أحد أصدقائي بقراءة قصصي و هو روائي معروف و فنان و متواضع  و زاهد إلى حد كبير لا يحتفي بنفسه و لا إنتاجه رغم أن فنه جدير بالاحتفاء. ربما كان تواضعه و زهده هما ما أغرياني بالإثقال عليه و إغراق بريده بقصصي التي أزعم أنها من صميم الحياة ليقرأها و يبدي الرأي فيها. و كان يفعل مشكورا و يزيد بأن يضع ملاحظات على الهوامش و يمتدح الأسلوب أحيانا و يوصيني بقراءة بعض الأعمال لأحسن من أدواتي..الحق يقال أنني استفدت منه كثيرا و كنت أتحين الفرص للقائه لأغرقه بالأسئلة عن كيفية بناء الشخصيات و الكتابة للغة أم اللغة للكتابة.. أكاد أذوب في خجلي الآن و أنا أتخيل حالته و هو يقرأ هذه القصص مضطرا و من باب الصداقة التي تربطنا و الإلحاح الذي أمارسه عليه..لكني بعد فترة توقفت عن إرسال القصص له و هو لم يسألني عن السبب و يبدو أنه زفر زفرة حارة حامدا الله على ذلك. أو لعله خر لله ساجدا و ذبح تيسا و فرق لحمه على الفقراء ابتهاجا بانتهاء هذه العملية الثقيلة. صحيح أنني لم أتوقف عن كتابة القصة و لكنني توقفت عن إرسالها له و السبب هو حرصي على أن تدوم صداقتنا. فهو من ذلك النوع النادر من الأصدقاء و الذي تكتشف معدنه  الأصيل عند أول لقاء. كما أنني خفت أن تخونه قدرته على الاحتمال فينفجر في وجهي أو على الأقل ينسحب في صمت..

و لي تجربة في الرواية كذلك و هي  تجربة فريدة من نوعها، فهي لم تتخطى قط مرحلة التخطيط و بالتخطيط هنا أعني حديثي في كل مجلس بمناسبة و بلا مناسبة و لكل أحد عن نيتي في إصدار رواية تتناول أحد العوالم المنسية في ثقافتنا الحجازية. و الحقيقة أنني كنت بارعا في الحديث و في وصف العمل كيف سيكون، شخوصه و أزمنته، و رسالته. لكنه لم يتخطى يوما مرحلة الحديث إلى التنفيذ و انتهى هذا العمل العظيم نهاية تليق به فصرت أستخدمه كمدخل للحوار في جلسات المثقفين التي أحضرها و وسيلة لإحياء الجلسة في تلك اللحظات التي يسود فيها الصمت المطبق..

تشعبت في الحديث كثيرا و أبحرت بعيدا عما كنت أريد قوله في الأساس و امتلئت سطور صفحتي بالتناقضات..استبد بي الملل و تمكن مني كما يفعل دائما؛ لذا لن أكمل هذه الحكاية..

 

كاتب أرزقي يعمل موظفا كحيانا

ليست هناك تعليقات: